الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ }

قوله تعالى: { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ }. لما بيّن الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال بيّن الفرق بينهما في مرجعهما ومآلهما، وكما قدم من على البينة في الذكر على من اتبع هواه، قدم حاله في مآله على حال من هو بخلاف حاله، وفي التفسير مسائل: المسألة الأولى: قوله تعالى: { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ } يستدعي أمراً يمثل به فما هو؟ نقول فيه وجوه: الأول: قول سيبويه حيث قال المثل هو الوصف معناه وصف الجنة، وذلك لا يقتضي ممثلاً به، وعلى هذا ففيه احتمالان أحدهما: أن يكون الخبر محذوفاً ويكون { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ } مبتدأ تقديره فيما قصصناه مثل الجنة، ثم يستأنف ويقول { فِيهَا أَنْهَارٌ } ، وكذلك القول في سورة الرعد يكون قوله تعالى:تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلانْهَـٰرُ } [الرعد: 35] ابتداء بيان والاحتمال الثاني: أن يكون فيها أنهار وقوله { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا } خبراً كما يقال صف لي زيداً، فيقول القائل: زيد أحمر قصير، والقول الثاني: أن المثل زيادة والتقدير: الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار. الوجه الثاني: ههنا الممثل به محذوف غير مذكور وهو يحتمل قولين أحدهما: قال الزجاج حيث قال: { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ } جنة تجري { فِيهَا أَنْهَارٌ } كما يقال مثل زيد رجل طويل أسمر فيذكر عين صفات زيد في رجل منكر لا يكون هو في الحقيقة إلا زيداً الثاني: من القولين هو أن يقال معناه { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } مثل عجيب، أو شيء عظيم أو مثل ذلك، وعلى هذا يكون قوله { فِيهَا أَنْهَارٌ } كلاماً مستأنفاً محققاً لقولنا مثل عجيب الوجه الثالث: الممثل به مذكور وهو قول الزمخشري حيث قال: { كَمَنْ هُوَ خَـٰلِدٌ فِى ٱلنَّارِ } مشبه به على طريقة الإنكار، وحينئذ فهذا كقول القائل حركات زيد أو أخلاقه كعمرو، وكذلك على أحد التأويلين، إما على تأويل كحركات عمرو أو على تأويل زيد في حركاته كعمر، وكذلك على أحد التأويلين، إما على تأويل كحركات عمرو أو على تأويل زيد في حركاته كعمر، وكذلك ههنا كأنه تعالى قال: مثل الجنة كمن هو خالد في النار، وهذا أقصى ما يمكن أن يقرر به قول الزمخشري، وعلى هذا فقوله تعالى: { فِيهَا أَنْهَارٌ } وما بعد هذا جمل اعتراضية وقعت بين المبتدأ والخبر كما يقال نظير زيد فيه مروءة وعنده علم وله أصل عمرو. ثم قال تعالى: { فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَـٰرٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لّلشَّـٰرِبِينَ وَأَنْهَـٰرٌ مّنْ عَسَلٍ مُّصَفّىً }. اختار الأنهار من الأجناس الأربعة، وذلك لأن المشروب إما أن يشرب لطعمه، وإما أن يشرب لأمر غير عائد إلى الطعم، فإن كان للطعم فالطعوم تسعة: المر والمالح والحريف والحامض والعفص والقابض والتفه والحلو والدسم ألذها الحلو والدسم، لكن أحلى الأشياء العسل فذكره وأما أدسم الأشياء فالدهن، لكن الدسومة إذا تمحضت لا تطيب للأكل ولا للشرب، فإن الدهن لا يؤكل ولا يشرب كما هو في الغالب، وأما اللبن فيه الدسم الكائن في غيره وهو طيب للأكل وبه تغذية الحيوان أولاً فذكره الله تعالى، وأما ما يشرب لا لأمر عائد إلى الطعم فالماء والخمر فإن الخمر فيها أمر يشربها الشارب لأجله، هي كريهة الطعم باتفاق من يشربها وحصول التواتر به ثم عرى كل واحد من الأشياء الأربعة عن صفات النقص التي هي فيها وتتغير بها الدنيا فالماء يتغير يقال أسن الماء يأسن على وزن أمن يأمن فهو آسن وأسن اللبن إذا بقي زماناً تغير طعمه، والخمر يكرهه الشارب عند الشرب، والعسل يشوبه أجزاء من الشمع ومن النحل يموت فيه كثيراً، ثم إن الله تعالى خلط الجنسين فذكر الماء الذي يشرب لا للطعم وهو عام الشرب، وقرن به اللبن الذي يشرب لطعمه وهو عام الشرب إذ ما من أحد إلا وكان شربه اللبن، ثم ذكر الخمر الذي يشرب لا للطعم وهو قليل الشرب، وقرن به العسل الذي يشرب للطعم وهو قليل الشرب، فإن قيل العسل لا يشرب، نقول شراب الجلاب لم يكن إلا من العسل والسكر قريب الزمان، ألا ترى أن السكنجبين من «سركه وانكبين» وهو الخل والعسل بالفارسية كما أن استخراجه كان أولاً من الخل والعسل ولم يعرف السكر إلا في زمان متأخر، ولأن العسل اسم يطلق على غير عسل النحل حتى يقال عسل النحل للتمييز، والله أعلم.

السابقالتالي
2 3 4 5