الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ }

لما بيّن الله تعالى حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بيّن حالهم في الآخرة وقال إنه يدخل المؤمن الجنة والكافر النار وفيه مسائل: المسألة الأولى: كثيراً ما يقتصر الله على ذكر الأنهار في وصف الجنة لأن الأنهار يتبعها الأشجار والأشجار تتبعها الثمار ولأنه سبب حياة العالم، والنار سبب الإعدام، وللمؤمن الماء ينظر إليه وينتفع به، وللكافر النار يتقلب فيها ويتضرر بها. المسألة الثانية: ذكرنا مراراً أن من في قوله { مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } يحتمل أن يكون صلة معناه تجري تحتها الأنهار، ويحتمل أن يكون المراد أن ماءها منها لا يجري إليها من موضع آخر، فيقال هذا النهر منبعه من أين؟ يقال من عين كذا من تحت جبل كذا. لمسألة الثالثة: قال: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ } خصهم بالذكر مع أن المؤمن أيضاً له التمتع بالدنيا وطيباتها، نقول من يكون له ملك عظيم ويملك شيئاً يسيراً أيضاً لا يذكر إلا بالملك العظيم، يقال في حق الملك العظيم صاحب الضيعة الفلانية ومن لا يملك إلا شيئاً يسيراً فلا يذكر إلا به، فالمؤمن له ملك الجنة فمتاع الدنيا لا يلتفت إليه في حقه والكافر ليس له إلا الدنيا، ووجه آخر: الدنيا للمؤمن سجن كيف كان، ومن يأكل في السجن لا يقال إنه يتمتع، فإن قيل كيف تكون الدنيا سجناً مع ما فيها من الطيبات؟ نقول للمؤمن في الآخرة طيبات معدة وإخوان مكرمون نسبتها ونسبتهم إلى الدنيا ومن فيها تتبين بمثال، وهو أن من يكون له بستان فيه من كل الثمرات الطيبة في غاية اللذة وأنهار جارية في غاية الصفاء ودور وغرف في غاية الرفعة وأولاده فيها، وهو قد غاب عنهم سنين ثم توجه إليهم وهم فيها، فلما قرب منهم عوق في أجمة فيها من بعض الثمار العفصة والمياه الكدرة، وفيها سباع وحشرات كثيرة، فهل يكون حاله فيها كحال مسجون في بئر مظلمة وفي بيت خراب أم لا؟ وهل يجوز أن يقال له اترك ما هو لك وتعلل بهذه الثمار وهذه الأنهار أم لا؟. كذلك حال المؤمن، وأما الكافر فحاله كحال من يقدم إلى القتل فيصبر عليه أياماً في مثل تلك الأجمة التي ذكرناها يكون في جنة، ونسبة الدنيا إلى الجنة والنار دون ما ذكرنا من المثال، لكنه ينبىء ذا البال، عن حقيقة الحال. وقوله تعالى: { كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَـٰمُ } يحتمل وجوهاً أحدها: أن الأنعام يهمها الأكل لا غير والكافر كذلك والمؤمن يأكل ليعمل صالحاً ويقوى عليه وثانيها: الأنعام لا تستدل بالمأكول على خالقها والكافر كذلك وثالثها: الأنعام تعلف لتسمن وهي غافلة عن الأمر، لا تعلم أنها كلما كانت أسمن كانت أقرب إلى الذبح والهلاك، وكذلك الكافر ويناسب ذلك قوله تعالى: { وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ }. المسألة الرابعة: قال في حق المؤمن { إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ } بصيغة الوعد، وقال في حق الكافر { وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } بصيغة تنبىء عن الاستحقاق لما ذكرنا أن الإحسان لا يستدعي أن يكون عن استحقاق، فالمحسن إلى من لم يوجد منه ما يوجب الإحسان كريم، والمعذب من غير استحقاق ظالم.