الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ }

اعلم أنه تعالى لما قرر دلائل التوحيد والنبوّة وذكر شبهات المنكرين وأجاب عنها، ذكر بعد ذلك طريقة المحقين والمحققين فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } وقد ذكرنا تفسير هذه الكلمة في سورة فصلت والفرق بين الموضعين أن في سورة فصلت ذكر أن الملائكة ينزلون ويقولونأَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } [فصلت: 30] وهٰهنا رفع الواسطة من البين وذكر أنه { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } فإذا جمعنا بين الآيتين حصل من مجموعهما أن الملائكة يبلغون إليهم هذه البشارة، وأن الحق سبحانه يسمعهم هذه البشارة أيضاً من غير واسطة. واعلم أن هذه الآيات دالة على أن من آمن بالله وعمل صالحاً فإنهم بعد الحشر لا ينالهم خوف ولا حزن، ولهذا قال أهل التحقيق إنهم يوم القيامة آمنون من الأهوال، وقال بعضهم خوف العقاب زائل عنهم، أما خوف الجلال والهيبة فلا يزول ألبتة عن العبد، ألا ترى أن الملائكة مع علو درجاتهم وكمال عصمتهم لا يزول الخوف عنهم فقال تعالى:يَخَـٰفُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ } [النحل: 50] وهذه المسألة سبقت بالاستقصاء في آيات كثيرة منها قوله تعالى:لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } [الأنبياء: 103]. ثم قال تعالى: { أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ خَـٰلِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على مسائل أولها: قوله تعالى: { أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ } وهذا يفيد الحصر، وهذا يدل على أن أصحاب الجنة ليسوا إلا الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة قبل التوبة لا يدخل الجنة وثانيها: قوله تعالى: { جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وهذا يدل على فساد قول من يقول: الثواب فضل لا جزاء وثالثها: أن قوله تعالى: { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يدل على إثبات العمل للعبد ورابعها: أن هذا يدل على أنه يجوز أن يحصل الأثر في حال المؤثر، أو أي أثر كان موجوداً قبل ذلك بدليل أن العمل المتقدم أوجب الثواب المتأخر وخامسها: كون العبد مستحقاً على الله تعالى، وأعظم أنواع هذا النوع الإحسان إلى الوالدين، لا جرم أردفه بهذا المعنى، فقال تعالى: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة العنكبوت، وفي سورة لقمان، وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي { بِوٰلِدَيْهِ إِحْسَـٰناً } والباقون { حَسَنًا }. واعلم أن الإحسان خلاف الإساءة والحسن خلاف القبيح، فمن قرأ { إِحْسَـٰناً } فحجته قوله تعالى في سورة بني إسرائيلوَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } [الإسراء: 43] والمعنى أمرناه بأن يوصل إليهما إحساناً، وحجة القراءة الثانية قوله تعالى في العنكبوتوَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } [العنكبوت: 8] ولم يختلفوا فيه، والمراد أيضاً أنا أمرناه بأن يوصل إليهما فعلاً حسناً، إلا أنه سمى ذلك الفعل الحسن بالحسن على سبيل المبالغة، كما يقال: هذا الرجل علم وكرم، وانتصب حسناً على المصدر، لأن معنى { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَـٰنَ بِوٰلِدَيْهِ } أمرناه أن يحسن إليهما إِحساناً.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10