الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } * { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } * { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } * { مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ }

واعلم أنه تعالى لما هدد الملحدين في آيات الله، ثم بيّن شرف آيات الله، وعلو درجة كتاب الله رجع إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يصبر على أذى قومه وأن لا يضيق قلبه بسبب ما حكاه عنهم في أول السورة من أنهم { قَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } إلى قولهفَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَـٰمِلُونَ } [فصلت: 5] فقال: { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } وفيه وجهان: الأول: وهو الأقرب أن المراد ما تقول لك كفار قومك إلا مثل ما قد قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزّلة { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } للمحقين { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } للمبطلين ففوض هذا الأمر إلى الله واشتغل بما أمرت به وهو التبليغ والدعوة إلى الله تعالى الثاني: أن يكون المراد ما قال الله لك إلا مثل ما قال لسائر الرسل وهو أنه تعالى أمرك وأمر كل الأنبياء بالصبر على سفاهة الأقوام فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته، وقد ظهر من كلامنا في تفسير هذه السورة أن المقصود من هذه السورة، هو ذكر الأجوبة عن قولهم { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي ءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } فتارة ينبه على فساد هذه الطريقة، وتارة يذكر الوعد والوعيد لمن لم يؤمن بهذا القرآن ولم يعرض عنه، وامتد الكلام إلى هذا الموضع من أول السورة على الترتيب الحسن والنظم الكامل، ثم إنه تعالى ذكر جواباً آخر عن قولهم { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي ءَاذانِنَا وَقْرٌ } فقال: { وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءايَـٰتُهُ ءاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: أأعجمي بهمزتين على الاستفهام، والباقون بهمزة واحدة ومدة على أصلهم في أمثاله، كقولهأأَنذَرْتَهُمْ } [البقرة: 6] ونحوها على الاستفهام، وروي عن ابن عباس بهمزة واحدة، وأما القراءة بهمزتين: فالهمزة الأولى همزة إنكار، والمراد أنكروا وقالوا قرآن أعجمي ورسول عربي، أو مرسل إليه عربي، وأما القراءة بغير همزة الاستفهام، فالمراد الإخبار بأن القرآن أعجمي والمرسل إليه عربي. المسألة الثانية: نقلوا في سبب نزول هذه الآية أن الكفار لأجل التعنت، قالوا لو نزل القرآن بلغة العجم فنزلت هذه الآية، وعندي أن أمثال هذه الكلمات فيها حيف عظيم على القرآن، لأنه يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض، وأنه يوجب أعظم أنواع الطعن فكيف يتم مع التزام مثل هذا الطعن ادعاء كونه كتاباً منتظماً، فضلاً عن ادعاء كونه معجزاً؟ بل الحق عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد، على ما حكى الله تعالى عنهم من قولهم { قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ } وهذا الكلام أيضاً متعلق به، وجواب له، والتقدير: أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب، ويصح لهم أن يقولوا { قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } أي من هذا الكلام { وفي آذاننا وقر } منه لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه، أما لما أنزلنا هذا الكتاب بلغة العرب، وبألفاظهم وأنتم من أهل هذه اللغة، فكيف يمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها، وفي آذانكم وقر منها، فظهر أنا إذا جعلنا هذا الكلام جواباً عن ذلك الكلام، بقيت السورة من أولها إلى آخرها على أحسن وجوه النظم، وأما على الوجه الذي يذكره الناس فهو عجيب جداً.

السابقالتالي
2 3