الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } * { ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَـارَ مُبْصِـراً إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } * { ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ خَـٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } * { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ }

اعلم أنه تعالى لما بيّن أن القوم بالقيامة حق وصدق، وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى، لا جرم كان الاشتغال بالطاعة من أهم المهمات، ولما كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع، لا جرم أمر الله تعالى به في هذه الآية فقال: { وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } واختلف الناس في المراد بقوله { ٱدْعُونِى } فقيل إنه الأمر بالدعاء، وقيل إنه الأمر بالعبادة، بدليل أنه قال بعده { ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى } ولولا أن الأمر بالدعاء أمر بمطلق العبادة لما بقي لقوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى } معنى، وأيضاً الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقولهإِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَـٰثاً } [النساء: 117] وأجيب عنه بأن الدعاء هو اعتراف بالعبودية والذلة والمسكنة، فكأنه قيل إن تارك الدعاء إنما تركه لأجل أن يستكبر عن إظهار العبودية وأجيب عن قوله إن الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن، بأن ترك الظاهرة لا يصار إليه إلا بدليل منفصل، فإن قيل كيف قال: { ٱدْعُونِى ٱسَتُجب لَكُمْ } وقد يدعى كثيراً فلا يستجاب أجاب الكعبي عنه بأن قال: الدعاء إنما يصح على شرط، ومن دعا كذلك استجيب له، وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة، ثم سأل نفسه فقال: فما هو أصلح يفعله بلا دعاء، فما الفائدة في الدعاءٰ وأجاب: عنه من وجهين الأول: أن فيه الفزع والانقطاع إلى الله والثاني: أن هذا أيضاً وارد على الكل، لأنه إن علم أنه يفعله فلا بدّ وأن يفعله، فلا فائدة في الدعاء، وإن علم أنه لا يفعله فإنه ألبتة لا يفعله، فلا فائدة في الدعاء، وكل ما يقولونه ههنا فهو جوابنا، هذا تمام ما ذكره، وعندي فيه وجه آخر وهو أنه قال: { ٱدْعُونِى ٱسَتُجب لَكُمْ } فكل من دعا الله وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه وأقاربه وأصدقائه وجده واجتهاده، فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان، أما بالقلب فإنه معول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله، فهذا الإنسان ما دعا ربه في وقت، أما إذا دعا في وقت لا يبقى في القلب التفات إلى غير الله، فالظاهر أنه تحصل الاستجابة، إذا عرفت هذا ففيه بشارة كاملة، وهي أن انقطاع القلب بالكلية عما سوى الله لا يحصل إلا عند القرب من الموت، فإن الإنسان قاطع في ذلك الوقت بأنه لا ينفعه شيء سوى فضل الله تعالى، فعلى القانون الذي ذكرناه وجب أن يكون الدعاء في ذلك الوقت مقبولاً عند الله، ونرجو من فضل الله وإحسانه أن يوفقنا للدعاء المقرون بالإخلاص والتضرع في ذلك الوقت، واعلم أن الكلام المستقصى في الدعاء قد سبق ذكره في سورة البقرة.

السابقالتالي
2 3 4