الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً }

اعلم أن هذا هو النوع الرابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة وهو ما يتعلق بالمواريث والفرائض وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في سبب نزول هذه الآية قال ابن عباس: ان أوس بن ثابت الانصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة، فجاء رجلان من بني عمه وهما وصيان له يقال لهما: سويد، وعرفجة وأخذا ماله. فجاءت امرأة أوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت القصة، وذكرت أن الوصيين ما دفعا إلي شيئا، وما دفعا إلى بناته شيئا من المال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ارجعي إلى بيتك حتى أنظر ما يحدث الله في أمرك " فنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، ودلت على أن للرجال نصيبا وللنساء نصيبا، ولكنه تعالى لم يبين المقدار في هذه الآية، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الوصيين وقال: " لا تقربا من مال أوس شيئا " ثم نزل بعد:يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِى أَوْلَـٰدِكُمْ } [النساء: 11] ونزل فرض الزوج وفرض المرأة، فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام الوصيين أن يدفعا إلى المرأة الثمن ويمسكا نصيب البنات، وبعد ذلك أرسل عليه الصلاة والسلام اليهما أن ادفعا نصيب بناتها اليها فدفعاه اليها، فهذا هو الكلام في سبب النزول. المسألة الثانية: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال، ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة، فبين تعالى أن الارث غير مختص بالرجال، بل هو أمر مشترك فيه بين الرجال والنساء، فذكر في هذه الآية هذا القدر، ثم ذكر التفصيل بعد ذلك ولا يمتنع إذا كان للقوم عادة في توريث الكبار دون الصغار ودون النساء، أن ينقلهم سبحانه وتعالى عن تلك العادة قليلا قليلاً على التدريج، لأن الانتقال عن العادة شاق ثقيل على الطبع، فاذا كان دفعة عظم وقعه على القلب، وإذا كان على التدريج سهل، فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذا المجمل أولا، ثم أردفه بالتفصيل. المسألة الثالثة: احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على توريث ذوي الارحام قال: لأن العمات والخالات والاخوال وأولاد البنات من الأقربين، فوجب دخولهم تحت قوله: { لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ ٱلْوٰلِدٰنِ وَٱلأقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ ٱلْوٰلِدٰنِ وَٱلأقْرَبُونَ } أقصى ما في الباب أن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية، إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية، وأما المقدار فنستفيده من سائر الدلائل. وأجاب أصحابنا عنه من وجهين: أحدهما: انه تعالى قال في آخر الآية { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } أي نصيبا مقدرا، وبالاجماع ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر، فثبت أنهم ليسوا داخلين في هذه الآية، وثانيهما: أن هذه الآية مختصة بالأقربين، فلم قلتم إن ذوي الأرحام من الأقربين؟ وتحقيقه أنه إما أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب من شيء آخر، أو المراد منه من كان أقرب من جميع الأشياء، والأول باطل لأنه يقتضي دخول أكثر الخلق فيه، لأن كل إنسان له نسب مع غيره إما بوجه قريب أو بوجه بعيد، وهو الانتساب إلى آدم عليه السلام، ولا بد وأن يكون هو أقرب إليه من ولده، فيلزم دخول كل الخلق في هذا النص وهو باطل، ولما بطل هذا الاحتمال وجب حمل النص على الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب الناس إليه، وما ذاك إلا الوالدان والأولاد، فثبت أن هذا النص لا يدخل فيه ذو الأرحام، لا يقال: لو حملنا الأقربين على الوالدين لزم التكرار، لأنا نقول: الأقرب جنس يندرج تحته نوعان: الوالد والولد، فثبت أنه تعالى ذكر الوالد، ثم ذكر الأقربين، فيكون المعنى أنه ذكر النوع، ثم ذكر الجنس فلم يلزم التكرار.

السابقالتالي
2