الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً }

اعلم أن الله تعالى لما هدد اليهود على الكفر، وبين أن ذلك التهديد لا بد من وقوعه لا محالة بين أن مثل هذا التهديد من خواص الكفر، فأما سائر الذنوب التي هي مغايرة للكفر فليست حالها كذلك، بل هو سبحانه قد يعفو عنها، فلا جرم قال: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: هذه الآية دالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع، ويدل عليه وجهان: الأول: أن الآية دالة على أن ما سوى الشرك مغفور، فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية، وبالاجماع هي غير مغفورة، فدل على أنها داخلة تحت اسم الشرك. الثاني: أن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود، فلولا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك، وإلا لم يكن الأمر كذلك. فان قيل: قوله تعالى:إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ } [الحج: 17] إلى قوله:وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [الحج: 17] عطف المشرك على اليهودي، وذلك يقتضي المغايرة. قلنا: المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغوي، والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعي، ولا بد من المصير إلى ما ذكرناه دفعا للتناقض. إذا ثبتت هذه المقدمة فنقول: قال الشافعي رضي الله عنه: المسلم لا يقتل بالذمي، وقال أبو حنيفة: يقتل. حجة الشافعي أن الذمي مشرك لما ذكرناه، والمشرك مباح الدم لقوله تعالى: اقتلوا المشركين. فكان الذمي مباح الدم على الوجه الذي ذكرناه ومباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله، ولا يتوجه النهي عن قتله ترك العمل بهذا الدليل في حق النهي، فوجب أن يبقى معمولا به في سقوط القصاص عن قاتله. المسألة الثانية: هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر. واعلم أن الاستدلال بها من وجوه: الوجه الأول: أن قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } معناه لا يغفر الشرك على سبيل التفضل لأنه بالاجماع لا يغفر على سبيل الوجوب، وذلك عندما يتوب المشرك عن شركه، فاذا كان قوله: إن الله لا يغفر الشرك هو أنه لا يغفره على سبيل التفضل، وجب أن يكون قوله: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } هو أن يغفره على سبيل التفضل حتى يكون النفي والاثبات متواردين على معنى واحد. ألا ترى أنه لو قال: فلان لا يعطي أحدا تفضلا، ويعطي زائدا فانه يفهم منه أنه يعطيه تفضلا، حتى لو صرح وقال: لا يعطي أحدا شيئاً على سبيل التفضل ويعطي أزيد على سبيل الوجوب، فكل عاقل يحكم بركاكة هذا الكلام، فثبت أن قوله: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } على سبيل التفضل.

السابقالتالي
2 3