الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً }

وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أنه تعالى بعد أن حكى عن اليهود أنواع مكرهم وإيذائهم أمرهم بالايمان وقرن بهذا الأمر الوعيد الشديد على الترك، ولقائل أن يقول: كان يجب أن يأمرهم بالنظر والتفكر في الدلائل الدالة على صحة نبوته، حتى يكون إيمانهم استدلاليا، فلما أمرهم بذلك الايمان ابتداء فكأنه تعالى أمرهم بالايمان على سبيل التقليد. والجواب عنه: أن هذا الخطاب مختص بالذين أوتوا الكتاب، وهذا صفة من كان عالما بجميع التوراة. ألا ترى أنه قال في الآية الأولى:ألم ترإِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } [النساء: 44] ولم يقل: ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب، لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة،، فلما قال في هذه الآية: { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } علمنا أن هذا التكليف مختص بمن كان عالما بكل التوراة، ومن كان كذلك فانه يكون عالما بالدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن التوراة كانت مشتملة على تلك الدلائل، ولهذا قال تعالى: { مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ } أي مصدقا للآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، واذا كان العلم حاصلا كان ذلك الكفر محض العناد، فلا جرم حسن منه تعالى أن يأمرهم بالايمان بمحمد عليه الصلاة والسلام جزماً، وأن يقرن الوعيد الشديد بذلك. المسألة الثانية: الطمس: المحو، تقول العرب في وصف المفازة، إنها طامسة الأعلام وطمس الطريق وطمس إذا درس، وقد طمس الله على بصره إذا أزاله وأبطله، وطمست الريح الأثر إذا محته، وطمست الكتاب محوته، وذكروا في الطمس المذكور في هذه الآية قولين: أحدهما: حمل اللفظ على حقيقته وهو طمس الوجوه: والثاني: حمل اللفظ على مجازه. أما القول الأول: فهو أن المراد من طمس الوجوه محو تخطيط صورها، فان الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه من الحواس، فاذا أزيلت ومحيت كان ذلك طمسا، ومعنى قوله: { فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَـٰرِهَا } رد الوجوه إلى ناحية القفا، وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة، لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة، فان هذا الوعيد مختص بيوم القيامة على ما سنقيم الدلالة عليه، ومما يقرره قوله تعالى:وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ } [الانشقاق: 10] فانه إذا ردت الوجوه إلى القفا أوتوا الكتاب من وراء ظهورهم، لأن في تلك الجهة العيون والأفواه التي بها يدرك الكتاب ويقرأ باللسان. فاما القول الثاني: فهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه، ثم ذكروا فيه وجوها: الأول: قال الحسن: المراد نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها، أي على ضلالتها، والمقصود بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات، ونظيره قوله تعالى:

السابقالتالي
2 3