الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يَشْتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ } * { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً }

اعلم أنه تعالى لما ذكر من أول هذه السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية، قطع ههنا ببيان الأحكام الشرعية، وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين، لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر، فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر، فإنه ينشط الخاطر ويقوي القريحة، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قوله: { أَلَمْ تَرَ } معناه: ألم ينته علمك إلى هؤلاء، وقد ذكرنا ما فيه عند قوله:أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِى حَاجَّ إِبْرٰهِيمَ } [البقرة: 258] وحاصل الكلام أن العلم اليقيني يشبه الرؤية، فيجوز جعل الرؤية استعارة عن مثل هذا العلم. المسألة الثانية: الذين أوتوا نصيبا من الكتاب: هم اليهود، ويدل عليه وجوه: الأول: أن قوله بعد هذه الآية:مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } [النساء: 46] متعلق بهذه الآية. الثاني: روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود، كانا يأتيان رأس المنافقان عبدالله بن أبي ورهطه فيثبطونهم عن الإسلام. الثالث: أن عداوة اليهود كانت أكثر من عداوة النصارى بنص القرآن، فكانت إحالة هذا المعنى على اليهود أولى. المسألة الثالثة: لم يقل تعالى: انهم أوتوا علم الكتاب، بل قال: { أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى عليه السلام، ولم يعرفوا منها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فأما الذين أسلموا كعبدالله بن سلام وعرفوا الأمرين، فوصفهم الله بأن معهم علم الكتاب، فقال:قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَـٰبِ } [الرعد: 43] والله أعلم. المسألة الرابعة: اعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين: الضلال والإضلال، أما الضلال فهو قوله: { يَشْتَرُونَ ٱلضَّلـٰلَةَ } وفيه وجوه: الأول: قال الزجاج: يؤثرون تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ليأخذوا الرشا على ذلك ويحصل لهم الرياسة، وإنما ذكر ذلك بلفظ الاشتراء لأن من اشترى شيئا آثره. الثاني: أن في الآية إضمارا، وتأويله: يشترون الضلالة بالهدى كقوله:أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [البقرة: 16] أي يستبدلون الضلالة بالهدى، ولا إضمار على قول الزجاج. الثالث: المراد بهذه الآية عوام اليهود، فانهم كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم ويطلبون منهم أن ينصروا اليهودية ويتعصبوا لها، فكانوا جارين مجرى من يشتري بماله الشبهة والضلالة، ولا إضمار على هذا التأويل أيضا، ولكن الأولى أن تكون الآية نازلة في علمائهم، ثم لما وصفهم تعالى بالضلال وصفهم بعد ذلك بالإضلال فقال: { وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ } يعني أنهم يتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم لكي يخرجوا عن الإسلام. واعلم أنك لا ترى حالة أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين أعني الضلال والإضلال. ثم قال تعالى: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ } أي هو سبحانه أعلم بكنه ما في قلوبهم وصدورهم من العداوة والبغضاء.

السابقالتالي
2