الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنْبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً }

واعلم أنه تعالى لما أرشد كل واحد من الزوجين إلى المعاملة الحسنة مع الآخر وإلى إزالة الخصومة والخشونة، أرشد في هذه الآية إلى سائر الأخلاق الحسنة وذكر منها عشرة أنواع. النوع الأول: قوله: { واعبدوا الله } قال ابن عباس: المعنى وحدوه، واعلم أن العبادة عبارة عن كل فعل وترك يؤتى به لمجرد أمر الله تعالى بذلك، وهذا يدخل فيه جميع أعمال القلوب وجميع أعمال الجوارح، فلا معنى لتخصيص ذلك بالتوحيد، وتحقيق الكلام في العبادة قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى:يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } [البقرة: 21]. النوع الثاني: قوله: { وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } وذلك لأنه تعالى لما أمر بالعبادة بقوله: { وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } أمر بالاخلاص في العبادة بقوله: { وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } لأن من عبد مع الله غيره كان مشركاً ولا يكون مخلصاً، ولهذا قال تعالى:وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } [البينة: 5]. النوع الثالث: قوله: { وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } واتفقوا على أن ههنا محذوفا، والتقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانا كقوله:فَضَرْبَ ٱلرّقَابِ } [محمد: 4] أي فاضربوها، ويقال: أحسنت بفلان، وإلى فلان. قال كثير:
أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة   لدنيا ولا مقلية إن تقلت
واعلم أنه تعالى قرن إلزام بر الوالدين بعبادته وتوحيده في مواضع: أحدها: في هذه الآية، وثانيها: قوله:وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إلاّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنا } [الإسراء: 23] وثالثها: قوله:أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ } [لقمان: 14] وكفى بهذا دلالة على تعظيم حقهما ووجوب برهما والاحسان اليهما. ومما يدل على وجوب البر اليهما قوله تعالى:فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا } [الإسراء: 23] وقال:وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَـٰنَ بوالديه حسنًا } [العنكبوت: 8] وقال في الوالدين الكافرين:وَإِن جَـٰهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَـٰحِبْهُمَا فِى ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } [لقمان: 15] وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن استأذنه في الجهاد، فقال عليه السلام: " هل لك أحد باليمن فقال أبواي فقال: أبواك أذنا لك فقال لا فقال فارجع وأستاذنهما فان أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما ". واعلم أن الاحسان إلى الوالدين هو أن يقوم بخدمتهما، وألا يرفع صوته عليهما، ولا يخشن في الكلام معهما، ويسعى في تحصيل مطالبهما والانفاق عليهما بقدر القدرة من البر، وأن لا يشهر عليهما سلاحا، ولا يقتلهما، قال أبو بكر الرازي: إلا أن يضطر إلى ذلك بأن يخاف أن يقتله أن ترك قتله، فحينئذ يجوز له قتله لأنه إذا لم يفعل ذلك كان قد قتل نفسه بتمكين غيره منه، وذلك منهي عنه، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا.

السابقالتالي
2 3 4