الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَٰتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَالَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }

قوله تعالى: { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ وَبَنَـٰتُكُمْ وَأَخَوٰتُكُمْ وَعَمَّـٰتُكُمْ وَخَـٰلَـٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ }. اعلم أنه تعالى نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النسوان: سبعة منهن من جهة النسب، وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. وسبعة أخرى لا من جهة النسب: الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء وبنات النساء بشرط أن يكون قد دخل بالنساء، وأزواج الابناء والآباء، إلا أن أزواج الأبناء مذكورة ههنا، وأزواج الآباء مذكورة في الآية المتقدمة، والجمع بين الأختين. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: ذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة قال: لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الاعيان، وإنما يمكن إضافته إلى الأفعال، وذلك الفعل غير مذكور في الآية، فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات، أولى من بعض، فصارت الآية مجملة من هذا الوجه. والجواب عنه من وجهين: الأول: أن تقديم قوله تعالى:وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ } [النساء: 22] يدل على أن المراد من قوله: { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ } تحريم نكاحهن. الثاني: أن من المعلوم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن المراد منه تحريم نكاحهن، والأصل فيه أن الحرمة والاباحة إذا أضيفتا إلى الاعيان، فالمراد تحريم الفعل المطلوب منها في العرف، فاذا قيل: حرمت عليكم الميتة والدم، فهم كل أحد أن المراد تحريم أكلهما، وإذا قيل: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم، فهم كل أحد أن المراد تحريم نكاحهن، ولما قال عليه الصلاة والسلام: " لا يحل دم امرىء مسلم إلا لاحدى معان ثلاث " فهم كل أحد أن المراد لا يحل إراقة دمه. وإذا كانت هذه الأمور معلومة بالضرورة كان إلقاء الشبهات فيها جاريا مجرى القدح في البديهيات وشبه السوفسطائية، فكانت في غاية الركاكة، والله أعلم. بلى عندي فيه بحث من وجوه أخرى: أحدها: أن قوله: { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ } مذكور على ما لم يسم فاعله، فليس فيه تصريح بأن فاعل هذا التحريم هو الله تعالى، وما لم يثبت ذلك لم تفد الآية شيئا آخر، ولا سبيل اليه إلا بالاجماع، فهذه الآية وحدها لا تفيد شيئا، بل لا بد معها من الاجماع على هذه المقدمة، وثانيها: أن قوله: { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ } ليس نصا في ثبوت التحريم على سبيل التأييد، فان القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه الى المؤبد، والى المؤقت، كأنه تعالى تارة قال: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم الى الوقت الفلاني فقط، وأخرى: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم مؤبدا مخلدا، واذا كان القدر المذكور في الآية صالحا لأن يجعل موردا للتقسيم بهذين القسمين، لم يكن نصا في التأييد، فاذن هذا التأييد لا يستفاد من ظاهر الآية، بل من دلالة منفصلة، وثالثها: أن قوله: { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ } خطاب مشافهة فيخصص بأولئك الحاضرين، فاثبات هذا التحريم في حق الكل إنما يستفاد من دليل منفصل، ورابعها: أن قوله: { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ } إخبار عن ثبوت هذا التحريم في الماضي، وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل فلا يعرف ذلك إلا بدليل منفصل، وخامسها: أن ظاهر قوله: { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ } يقتضي أنه قد حرم على كل أحد جميع أمهاتهم وجميع بناتهم، ومعلوم أنه ليس كذلك، بل المقصود أنه تعالى قابل الجمع بالجمع، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد، فهذا يقتضي أن الله تعالى قد حرم على كل أحد أمه خاصة، وبنته خاصة، وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر، وسادسها: أن قوله: { حُرِّمَـٰتْ } يشعر ظاهره بسبق الحل، إذ لو كان أبدا موصوفا بالحرمة لكان قوله: { حُرِّمَـٰتْ } تحريماً لما هو في نفسه حرام، فيكون ذلك إيجاد الموجود وهو محال، فثبت أن المراد من قوله: { حُرِّمَـٰتْ } ليس تجديد التحريم حتى يلزم الاشكال المذكور، بل المراد الاخبار عن حصول التحريم، فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب،والله أعلم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد