الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }

وفيه مسائل: المسألة الأولى: في متعلق الباء في قوله { فَبِمَا نَقْضِهِم } قولان الأول: أنه محذوف تقديره فيما نقضهم ميثاقهم وكذا، لعنادهم وسخطنا عليهم، والحذف أفخم لأن عند الحذف يذهب الوهم كل مذهب، ودليل المحذوف أن هذه الأشياء المذكورة من صفات الذم فيدل على اللعن. الثاني: أن متعلق الباء هو قولهفَبِظُلْمٍ مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَـٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [النساء: 160] وهذا قول الزجاج ورغم أن قوله { فَبِظُلْمٍ مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } بدل من قوله { فِمَا نَقْضِهِم }. واعلم أن القول الأول أولى، ويدل عليه وجهان: أحدهما: أن من قوله { فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـٰقَهُمْ } إلى قوله { فَبِظُلْمٍ } الآيتين بعيد جداً، فجعل أحدهما بدلاً عن الآخر بعيد. الثاني: أن تلك الجنايات المذكورة عظيمة جداً لأن كفرهم بالله وقتلهم الأنبياء وإنكارهم للتكليف بقولهم: قلوبنا غلف أعظم الذنوب، وذكر الذنوب العظيمة إنما يليق أن يفرع عليه العقوبة العظيمة، وتحريم بعض المأكولات عقوبة خفيفة فلا يحسن تعليقه بتلك الجنايات العظيمة. المسألة الثانية: اتفقوا على أن ما في قوله { فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـٰقَهُمْ } صلة زائدة، والتقدير: فبنقضهم ميثاقهم، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قولهفَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } [آل عمران: 159]. المسألة الثالثة: أنه تعالى أدخل حرف الباء على أمور: أولها: نقض الميثاق. وثانيها: كفرهم بآيات الله، والمراد منه كفرهم بالمعجزات، وقد بينا فيما تقدم أن من أنكر معجزة رسول واحد فقد أنكر جميع معجزات الرسل، فلهذا السبب حكم الله عليهم بالكفر بآيات الله. وثالثها: قتلهم الأنبياء بغير حق، وذكرنا تفسيره في سورة البقرة. ورابعها: قولهم { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } وذكر القفال فيه وجهين: أحدهما: أن غلفا جمع غلاف والأصل غلف بتحريك اللام فخفف بالتسكين، كما قيل كتب ورسل بتسكين التاء والسين، والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا غلف، أي أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا، فكذبوا الأنبياء بهذا القول. والثاني: أن غلفا جمع أغلف وهو المتغطى بالغلاف أي بالغطاء، والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا في أغطية فهي لا تفقه ما تقولون، نظيره ما حكى الله في قولهوَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [فصلت: 5]. ثم قال تعالى: { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }. فإن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الأول كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم أوعية للعلم وبيّـن أنه تعالى طبع عليها وختم عليها فلا يصل أثر الدعوة والبيان إليها، وهذا يليق بمذهبنا، وإن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الثاني كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم في الأكنة والأغطية، وهذا يليق بمذهب المعتزلة، إلاّ أن الوجه الأول أولى، وهو المطابق لقوله { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }. ثم قال: { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي لا يؤمنون إلاّ بموسى والتوراة، وهذا إخبار منهم على حسب دعواهم وزعمهم، وإلاّ فقد بيّنا أن من يكفر برسول واحد وبمعجزة واحدة فإنه لا يمكنه الإيمان بأحد من الرسل ألبتة.