الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذٰلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَاناً مُّبِيناً } * { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي ٱلسَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً }

اعلم أن هذا هو النوع الثاني من جهالات اليهود، فإنهم قالوا: إن كنت رسولاً من عند الله فائتنا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح. وقيل: طلبوا أن ينزل عليهم كتاباً من السماء إلى فلان وكتاباً إلى فلان بأنك رسول الله وقيل: كتاباً نعاينه حين ينزل، وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت لأن معجزات الرسول كانت قد تقدمت، وحصلت فكان طلب الزيادة من باب التعنت. ثم قال تعالى: { فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ } وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى عليه السلام وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومشاكلين لهم في التعنت. واعلم أن المقصود من الآية بيان ما جبلوا عليه من التعنت، كأنه قيل: إن موسى لما نزل عليه كتاب من السماء لم يكتفوا بذلك القدر، بل طلبوا منه الرؤية على سبيل المعاينة، وهذا يدل على أن طلب هؤلاء لنزول الكتاب عليهم من السماء ليس لأجل الاسترشاد بل لمحض العناد. ثم قال تعالى: { فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا ٱللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ } وهذه القصة قد فسرناها في سورة البقرة، واستدلال المعتزلة بهذه الآية على نفي الرؤية قد أجبنا عنه هناك. ثم قال تعالى: { ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ ٱلْبَيِّنَـٰتُ } والمعنى بيان كمال جهالاتهم وإصرارهم على كفرهم فإنهم ما اكتفوا بعد نزول التوراة عليهم بطلب الرؤية جهرة، بل ضموا إليه عبادة العجل وذلك يدل على غاية بعدهم عن طلب الحق والدين، والمراد بالبينات من قوله { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ ٱلْبَيِّنَـٰتُ } أمور: أحدها: أنه تعالى جعل ما أراهم من الصاعقة بينات، فإن الصاعقة وإن كانت شيئاً واحداً إلاّ أنها كانت دالة على قدرة الله تعالى وعلى علمه وعلى قدمه، وعلى كونه مخالفاً للأجسام والأعراض وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوّة. وثانيها: أن المراد بالبينات إنزال الصاعقة وإحياؤهم بعد ما أماتهم. وثالثها: أنهم إنما عبدوا العجل من بعد أن شاهدوا معجزات موسى عليه السلام التي كان يظهرها في زمان فرعون، وهي العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها من المعجزات القاهرة، والمقصود من ذلك الكلام أن هؤلاء يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فاعلم يا محمد أنهم لا يطلبونه منك إلاّ عناداً ولجاجاً، فإن موسى قد أنزل الله عليه هذا الكتاب وأنزل عليه سائر المعجزات القاهرة، ثم أنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وأقبلوا على عبادة العجل، وكل ذلك يدل على أنهم مجبولون على اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق.

السابقالتالي
2