الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }

في الآية مسائل: المسألة الأولى: في اتصال الآية بما قبلها وجوه: الأول: أنه لما تقدم ذكر النساء والنشوز والمصالحة بينهن وبين الأزواج عقبه بالأمر بالقيام بأداء حقوق الله تعالى وبالشهادة لإحياء حقوق الله، وبالجملة فكأنه قيل: إن اشتغلت بتحصيل مشتهياتك كنت لنفسك لا لله، وءن اشتغلت بتحصيل مأمورات الله كنت صلى الله عليه وسلم لا لنفسك، ولا شك أن هذا المقام أعلى وأشرف، فكانت هذه الآية تأكيداً لما تقدم من التكاليف. الثاني: أن الله تعالى لما منع الناس عن أن يقصروا عن طلب ثواب الدنيا وأمرهم بأن يكونوا طالبين لثواب الآخرة ذكر عقيبه هذه الآية، وبين أن كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله وسكونه لله حتى يصير من الذين يكونون في آخر مراتب الإنسانية وأول مراتب الملائكة، فأما إذا عكس هذه القضية كان مثل البهيمة التي منتهى أمرها وجدان علف، أو السبع الذي غاية أمره إيذاء حيوان. الثالث: أنه تقدم في هذه السورة أمر الناس بالقسط كما قالوَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ } [النساء: 3] وأمرهم بالإشهاد عن دفع أموال اليتامى إليهم، وأمرهم بعد ذلك ببذل النفس والمال في سبيل الله، وأجرى في هذه السورة قصة طعمة بن أبيرق واجتماع قومه على الذب عنه بالكذب والشهادة على اليهودي بالباطل. ثم إنه تعالى أمر في هذه الآيات بالمصالحة مع الزوجة، ومعلوم أن ذلك أمر من الله لعباده بأن يكونوا قائمين بالقسط، شاهدين لله على كل أحد، بل وعلى أنفسهم، فكانت هذه الآية كالمؤكد لكل ما جرى ذكره في هذه السورة من أنواع التكاليف. المسألة الثانية: القوام مبالغة من قائم، والقسط العدل، فهذا أمر منه تعالى لجميع المكلفين بأن يكونوا مبالغين في اختيار العدل والاحتراز عن الجور والميل، وقوله { شُهَدَاء للَّهِ } أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله كما أمرتم بإقامتها، ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم، وشهادة الإنسان على نفسه لها تفسيران: الأول: أن يقرعلى نفسه لأن الإقرار كالشهادة في كونه موجباً إلزام الحق، والثاني: أن يكون المراد وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم وأقاربكم، وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره. المسألة الثالثة: في نصب { شُهَدَاء } ثلاثة أوجه: الأول: على الحال من { قَوَّامِينَ }. والثاني: أنه خبر على أن { كُونُواْ } لها خبران، والثالث: أن تكون صفة لقوامين. المسألة الرابعة: إنما قدم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه: الأول: أن أكثر الناس عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى أن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان في محل المسامحة وأحسن الحسن، وإذا صدر عن غيرهم كان في محل المنازعة فالله سبحانه نبّه في هذه الآية على سوء هذه الطريقة، وذلك أنه تعالى أمرهم بالقيام بالقسط أولاً، ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانياً، تنبيهاً على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير.

السابقالتالي
2 3