الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }

وأعلم أن هذه إشارة إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضي من القول وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: النجوى في اللغة سر بين إثنين، يقال ناجيت الرجل مناجاة ونجاء، ويقال: نجوت الرجل أنجو نجوى بمعنى ناجيته، والنجوى قد تكون مصدراً بمنزلة المناجاة، قال تعالىمَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَـٰثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [المجادلة: 7] وقد تكون بمعنى القوم الذين يتناجون، قال تعالىوَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } [الإسراء: 47]. المسألة الثانية: قوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } ذكر النحويون في محل { مِنْ } وجوهاً، وتلك الوجود مبنية على معنى النجوى في هذه الآية، فإن جعلنا معنى النجوى ههنا السر فيجوز أن يكون في موضع النصب لأنه استثناء الشيء عن خلاف جنسه فيكون نصباً كقولهإِلاَّ أَذًى } [آل عمران: 111] ويجوز أن يكون رفعاً في لغة من يرفع المستثنى من غير الجنس كقوله:
إلا اليعافير وإلا العيس   
وأبو عبيدة جعل هذا من باب حذف المضاف فقال: التقدير إلا في نجوى من أمر بصدقة ثم حذف المضاف، وعلى هذا التقدي يكون { مِنْ } في محل النجوى لأنه أقيم مقامه، ويجوز فيه وجهان: إحدهما: الخفض بدل من نجواهم، كما تقول: ما مررت بأحد إلا زيد. والثاني: النصب على الاستثناء فكما تقول ما جاءني أحد إلا زيداً، وهذا استثناء الجنس من الجنس، وأما ان جعلنا النجوى اسماً للقوم المتناجين كان منصوباً على الاستثناء لأنه استثناء الجنس من الجنس، ويجوز أن يكون { مِنْ } في محل الخفض من وجهين: أحدهما: أن تجلعه تبعاً لكثير، على معنى: لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة، كقولك: لا خير في القوم إلا نفر منهم. والثاني: أن تجعله تبعاً للنجوى، كما تقول: لا خير في جماعة من القوم إلا زيد، إن شئت أتبعت زيداً الجماعة، وإن شئت أتبعته القوم، والله أعلم. المسألة الثالثة: هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة، والمراد: لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير، ثم إنه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع: الأمر بالصدقة، والأمر بالمعروف، والاصلاح بين الناس، وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة، وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة، أما إيصال الخير فاما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } وإما أن يكون من الخيرات الروحانية، وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف، وإليه الإشارة بقوله { أَوْ مَعْرُوفٍ } وأما إزالة الضرر فإليها الإشارة بقوله { أَوْ إِصْلَـٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية، ومما يدل على صحة ما ذكرنا قوله عليه الصلاة والسلام:

السابقالتالي
2