الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً }

ثم قال تعالى: { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ } والمعنى ولولا أن الله خصك بالفضل وهو النبوّة، وبالرحمة وهي العصمة لهمت طائفة منهم أن يضلوك، وذلك لأن قوم طعمة كانوا قد عرفوا أنه سارق، ثم سألوا النبي عليه السلام أن يدفع ويجادل عنه ويبرئه عن السرقة، وينسب تلك السرقة إلى اليهودي، ومعنى يضلوك أي يلقوك في الحكم الباطل الخطأ. ثم قال تعالى: { وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان، فهم لما أقدموا على هذه الأعمال فهم الذين يعملون عمل الضالين. { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء } فيه وجهان: الأول: قال القفال رحمه الله: وما يضرونك في المستقبل، فوعده الله تعالى في هذه الآية بادامة العصمة له مما يريدون من إيقاعه في الباطل. الثاني: أن المعنى أنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت في الباطل، لأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال، وأنت ما أمرت إلا ببناء الأحكام على الظواهر. ثم قال تعالى: { وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } وأعلم أنّا إن فسرنا قوله { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء } بأن المراد أنه تعالى وعده بالعصمة في المستقبل كان قوله { وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } مؤكداً لذلك الوعد، يعني لما أنزل عليك الكتاب والحكمة وأمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات، وإن فسرنا تلك الآية بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان معذوراً في بناء الحكم على الظاهر كان المعنى: وأنزل عليك الكتاب والحكمة وأوجب فيها بناء أحكام الشرع على الظاهر فكيف يضرك بناء الأمر على الظاهر. ثم قال تعالى: { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } قال القفال رحمه الله: هذه الآية تحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المراد ما يتعلق بالدين، كما قالمَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلاَ ٱلإِيمَـٰنُ } [الشورى: 52] وعلى هذا الوجه تقدير الآية: أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وأطلعك على أسرارهما وأوقفك على حقائقهما مع أنك ما كنت قبل ذلك عالماً بشيء منهما، فكذلك يفعل بك في مستأنف أيامك لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك وإزلالك. الوجه الثاني: أن يكون المراد: وعلمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه كيدهم ما تقدر به على الاحتراز عن وجوه كيدهم ومكرهم، ثم قال { وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } وهذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب وذلك لأن الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا القليل، كما قالوَمَا أُوتِيتُم مّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 85] ونصيب الشخص الواحد من علوم جميع الخلق يكون قليلاً، ثم أنه سمى ذلك القليل عظيماً حيث قال { وَمَا أُوتِيتُم مّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } وسمى جميع الدنيا قليلاً حيث قالقُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ } [النساء: 77] وذلك يدل على غاية شرف العلم.