الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً }

اعلم أنه تعالى أكد الوعيد في أكل مال اليتيم ظلما، وقد كثر الوعيد في هذه الآيات مرة بعد أخرى على من يفعل ذلك، كقوله:وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوٰلِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [النساء: 2]وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـٰفاً } [النساء: 9] ثم ذكر بعدها هذه الآية مفردة في وعيد من يأكل أموالهم، وذلك كله رحمة من الله تعالى باليتامى لأنهم لكمال ضعفهم وعجزهم استحقوا من الله مزيد العناية والكرامة، وما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته وكثرة عفوه وفضله، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: دلت هذه الآية على أن مال اليتيم قد يؤكل غير ظلم، والا لم يكن لهذا التخصيص فائدة، وذلك ما ذكرناه فيما تقدم أن للولي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف. المسألة الثانية: قوله: { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً } فيه قولان: الأول: أن يجري ذلك على ظاهره قال السدي: إذا أكل الرجل مال اليتيم ظلما يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومسامعه وأذنيه وعينيه، يعرف كل من رآه أنه أكل مال اليتيم. وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليلة أسرى بي رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الابل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من النار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء: فقال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ". والقول الثاني: ان ذلك توسع، والمراد: ان أكل مال اليتيم جار مجرى أكل النار من حيث انه يفضي اليه ويستلزمه، وقد يطلق اسم أحد المتلازمين على الآخر، كقوله تعالى:وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [الشورى: 40] قال القاضي: وهذا أولى من الأول لأن قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً } الاشارة فيه إلى كل واحد، فكان حمله على التوسع الذي ذكرناه أولى. المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: الأكل لا يكون إلا في البطن فما فائدة قوله: { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً }. وجوابه: أنه كقوله:يَقُولُونَ بِأَفْوٰهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِم } [آل عمران: 167] والقول لا يكون إلا بالفهم، وقال:وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ } [الحج: 46] والقلب لا يكون إلا في الصدر، وقال:وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام: 38] والطيران لا يكون إلا بالجناح، والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة. المسألة الرابعة: انه تعالى وإن ذكر الأكل إلا أن المراد منه كل أنواع الاتلافات، فان ضرر اليتيم لا يختلف بأن يكون إتلاف ماله بالأكل، أو بطريق آخر، وإنما ذكر الأكل وأراد به كل التصرفات المتلفة لوجوه: أحدها: أن عامة مال اليتيم في ذلك الوقت هو الأنعام التي يأكل لحومها ويشرب ألبانها.

السابقالتالي
2 3