الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ } * { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } * { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبِّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }

اعلم أن الآية المتقدمة دلت على أنه تعالى بين كونه منزهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداً وقهاراً غالباً أي: كامل القدرة، فلما بنى تلك المسألة على هذه الأصول ذكر عقيبها ما يدل على كمال القدرة وعلى كمال الاستغناء، وأيضاً فإنه تعالى طعن في إلهية الأصنام فذكر عقيبها الصفات التي باعتبارها تحصل الإلهية، واعلم أنا بينا في مواضع من هذا الكتاب أن الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات إلهيته، إما أن تكون فلكية أو عنصرية، أما الفلكية فأقسام أحدها: خلق السموات والأرض، وهذا المعنى يدل على وجود الإله القادر من وجوه كثيرة شرحناها في تفسير قوله تعالى:ٱلْحَمْدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [الأنعام: 1] والثاني: اختلاف أحوال الليل والنهار وهو المراد ههنا من قوله: { يُكَوّرُ ٱلَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱلَّيْلِ } وذلك لأن النور والظلمة عسكران مهيبان عظيمان، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك تارة، وذلك هذا أخرى. وذلك يدل على أن كل واحد منهما مغلوب مقهور، ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره وهو الله سبحانه وتعالى، والمراد من هذا التكوير أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص عن الآخر، والمراد من تكوير الليل والنهار ما ورد في الحديث: " نعوذ الله من الحور بعد الكور " أي: من الإدبار بعد الإقبال، واعلم أنه سبحانه وتعالى عبر عن هذا المعنى بقوله: { يُكَوّرُ ٱلَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ } وبقوله:يغشى الليل النهار } [الأعراف: 54] وبقوله:يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ } [فاطر: 13] وبقوله:وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } [الفرقان: 62] والثالث: اعتبار أحوال الكواكب لا سيما الشمس والقمر، فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل، وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما وقوله: { كل يجري لأجل مسمى } الأجل المسمى يوم القيامة، لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا، ونظيره قوله تعالى:وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } [القيامة: 9] والمراد من هذا التسخير أن هذه الأفلاك تدور كدوران المنجنون على حد واحد إلى يوم القيامة وعنده تطوي السماء كطي السجل للكتب. ولما ذكر الله هذه الأنواع الثلاثة من الدلائل الفلكية قال: { أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ } والمعنى: أن خلق هذه الأجرام العظيمة وإن دل على كونه عزيزاً أي كامل القدرة إلا أنه غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان، فإنه لما كان الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة فكونه غفاراً يوجب كثرة الرحمة، وكثرة الرحمة توجب الرجاء والرغبة، ثم إنه تعالى أتبع ذكر الدلائل الفلكية بذكر الدلائل المأخوذة من هذا العالم الأسفل، فبدأ بذكر الإنسان فقال: { خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ودلالة تكون الإنسان على الإله المختار قد سبق بيانها مراراً كثيرة، فإن قيل كيف جاز أن يقول: { خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } والزوج مخلوق قبل خلقهم؟ أجابوا عنه من وجوه الأول: أن كلمة ثم كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية، فكذلك تجيء لبيان تأخر أحد الكلامين عن الآخر، كقول القائل بلغني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت أمس كان أعجب، ويقول أيضاً قد أعطيتك اليوم شيئاً، ثم الذي أعطيتك أمس أكثر الثاني: أن يكون التقدير خلقكم من نفس خلقت وحدها ثم جعل منها زوجها الثالث: أخرج الله تعالى ذرية آدم من ظهره كالذر ثم خلق بعد ذلك حواء.

السابقالتالي
2 3 4 5