الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }

لما ذكر الله تعالى حال المؤمنين والمجرمين كان لقائل أن يقول: إن الإنسان كان ظلوماً جهولاً، والجهل من الأعذار، فقال الله ذلك عند عدم الإنذار، وقد سبق إيضاح السبل بإيضاح الرسل، وعهدنا إليكم وتلونا عليكم ما ينبغي أن تفعلوه وما لا ينبغي، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في اللغات التي في { أَعْهَدْ } وهي كثيرة الأولى: كسر همزة إعهد وحروف الاستقبال كلها تكسر إلا الياء فلا يقال يعلم ويعلم الثانية: كسر الهاء من باب ضرب يضرب الثالثة: قلب العين جيما ألم أجهد وذلك في كل عين بعدها هاء الرابعة: إدغام الهاء في الحاء بعد القلب فيقال ألم أحد، وقد سمع قوم يقولون دحا محا، أي دعها معها. المسألة الثانية: في معنى أعهد وجوه أقربها وأقربها ألم أوص إليكم. المسألة الثالثة: في هذا العهد وجوه الأول: أنه هو العهد الذي كان مع أبينا آدم بقوله:وَعَهِدْنَا إِلَىٰ ءَادَمَ } [طه: 115] الثاني: أنه هو الذي كان مع ذرية آدم بقوله تعالى:أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172] فإن ذلك يقتضي أن لا نعبد غير الله الثالث: هو الأقوى، أن ذلك كان مع كل قوم على لسان رسول، ولذلك اتفق العقلاء على أن الشيطان يأمر بالشر، وإن اختلفوا في حقيقته وكيفيته.المسألة الرابعة: قوله: { لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ } معناه لا تطيعوه، بدليل أن المنهي عنه ليس هو السجود له فحسب، بل الانقياد لأمره والطاعة له فالطاعة عبادة، لا يقال فنكون نحن مأمورين بعبادة الأمراء حيث أمرنا بطاعتهم في قوله تعالى:أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء: 59] لأنا نقول طاعتهم إذا كانت بأمر الله، لا تكون إلا عبادة لله وطاعة له، وكيف لا ونفس السجود والركوع للغير إذا كان بأمر الله لا يكون إلا عبادة لله، ألا ترى أن الملائكة سجدوا لآدم ولم يكن ذلك إلا عبادة لله، وإنما عبادة الأمراء هو طاعتهم فيما لم يأذن الله فيه، فإن قيل بماذا تعلم طاعة الشيطان من طاعة الرحمن، مع أنا لا نسمع من الشيطان خبراً ولا نرى منه أثراً؟ نقول عبادة الشيطان في مخالفة أمر الله أو الإتيان بما أمر الله لا لأنه أمر به، ففي بعض الأوقات يكون الشيطان يأمرك وهو في غيرك، وفي بعض الأوقات يأمرك وهو فيك، فإذا جاءك شخص يأمرك بشيء، فانظر إن كان ذلك موافقاً لأمر الله أو ليس موافقاً، فإن لم يكن موافقاً فذلك الشخص معه الشيطان يأمرك بما يأمرك به، فإن أطعته فقد عبدت الشيطان، وإن دعتك نفسك ألى فعل فانظر أهو مأذون فيه من جهة الشرع أو ليس كذلك، فإن لم يكن مأذوناً فيه فنفسك هي الشيطان، أو معها الشيطان يدعوك، فإن اتبعته فقد عبدته، ثم إن الشيطان يأمر أولاً بمخالفة الله ظاهراً، فمن أطاعه فقد عبده ومن لم يطعه فلا يرجع عنه، بل يقول له أعبد الله كي لا تهان، وليرتفع عند الناس شأنك، وينتفع بك إخوانك وأعوانك، فإن أجاب إليه فقد عبده لكن عبادة الشيطان على تفاوت، وذلك لأن الأعمال منها ما يقع والعامل موافق فيه جنانه ولسانه وأركانه، ومنها ما يقع والجنان واللسان مخالف للجوارح أو للأركان، فمن الناس من يرتكب جريمة كارهاً بقلبه لما يقترف من ذبنه، مستغفراً لربه، يعترف بسوء ما يقترف فهو عبادة الشيطان بالأعضاء الظاهرة، ومنهم من يرتكبها وقلبه طيب ولسانه رطب، كما أنك تجد كثيراً من الناس يفرح بكون متردداً إلى أبواب الظلمة للسعاية، ويعد من المحاسن كونه سارياً مع الملوك ويفتخر به بلسانه، وتجدهم يفرحون بكونهم آمرين الملك بالظلم والملك ينقاد لهم، أو يفرحون بكونه يأمرهم بالظلم فيظلمون، فرحين بما ورد عليهم من الأمر، إذا عرفت هذا فالطاعة التي بالأعضاء الظاهرة، والبواطن طاهرة مكفرة بالأسقام والآلام، كما ورد في الأخبار، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم

السابقالتالي
2 3 4