الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ }

ولها مناسبة مع ما تقدم من وجهين أحدهما: أنه تعالى لما من بإحياء الأرض وهي مكان الحيوانات بين أنه لم يقتصر بل جعل للإنسان طريقاً يتخذ من البحر خيراً ويتوسطه أو يسير فيه كما يسير في البر وهذا حينئذٍ كقوله:وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِي ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ } [الإسراء: 70] ويؤيد هذا قوله تعالى:وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } [يس: 42] إذا فسرناه بأن المراد الإبل فإنها كسفن البراري وثانيهما: هو أنه تعالى لما بين سباحة الكواكب في الأفلاك وذكر ما هو مثله وهو سباحة الفلك في البحار، ولها وجه ثالث: وهي أن الأمور التي أنعم الله بها على عباده منها ضرورية ومنها نافعة والأول للحاجة والثاني للزينة فخلق الأرض وإحياؤها من القبيل الأول فإنها المكان الذي لولاه لما وجد الإنسان ولولا إحياؤها لما عاش والليل والنهار في قوله:وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ } [يس: 37] أيضاً من القبيل الأول، لأنه الزمان الذي لولاه لما حدث الإنسان، والشمس والقمر وحركتهما لو لم تكن لما عاش، ثم إنه تعالى لما ذكر من القبيل الأول آيتين ذكر من القبيل الثاني وهوالزينة آيتين إحداهما: الفلك التي تجري في البحر فيستخرج من البحر ما يتزين به كما قال تعالى:وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فيه مواخر } [فاطر: 12] وثانيتهما: الدواب التي هي في البر كالفلك في البحر في قوله:وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } [يس: 42] فإن الدواب زينة كما قال تعالى:وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لتركبوها وزينة } [النحل: 8] وقال:وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } [النحل: 6] فيكون استدلالاً عليهم بالضروري والنافع لا يقال بأن النافع ذكره في قوله:جَنَّـٰتٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـٰبٍ } [يس: 34] فإنها للزينة لأنا نقول ذلك حصل تبعاً للضروري، لأن الله تعالى لما خلق الأرض منبتة لدفع الضرورة وأنزل الماء عليها كذلك لزم أن يخرج من الجنة النخيل والأعناب بقدرة الله، وأما الفلك فمقصود لا تبع، ثم إذا علمت المناسبة ففي الآيات أبحاث لغوية ومعنوية: أما اللغوية: قال المفسرون الذرية هم الآباء أي حملنا آباءكم في الفلك والألف واللام للتعريف أي فلك نوح وهو مذكور في قوله:وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ } [هود: 37] ومعلوم عند العرب فقال الفلك، هذا قول بعضهم، وأما الأكثرون فعلى أن الذرية لا تطلق إلا على الولد وعلى هذا فلا بد من بيان المعنى، فنقول الفلك إما أن يكون المراد الفلك المعين الذي كان لنوح، وإما أن يكون المراد الجنس كما قال تعالى:وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَـٰمِ مَا تَرْكَبُونَ } [الزخرف: 12] وقال تعالى:وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } [فاطر: 12] وقال تعالى:فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ } [العنكبوت: 65] إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس، فإن كان المراد سفينة نوح عليه السلام ففيه وجوه الأول: أن المراد إنا حملنا أولادكم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل ولا عقب وعلى هذا فقوله: { حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ } بدل قوله: حملناهم إشارة إلى كمال النعمة أي لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة، هذا ما قاله الزمخشري، ويحتمل عندي أن يقال على هذا إنه تعالى إنما خص الذرية بالذكر، لأن الموجودين كانوا كفاراً لا فائدة في وجودهم فقال: { حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } أي لم يكن الحمل حملاً لهم، وإنما كان حملاً لما في أصلابهم من المؤمنين كما أن من حمل صندوقاً لا قيمة له وفيه جواهر إذا قيل له لم تحمل هذا الصندوق وتتعب في حمله وهو لا يشتري بشيء؟ يقول: لا أحمل الصندوق وإنما أحمل ما فيه الثاني: هو أن المراد بالذرية الجنس معناه حملنا أجناسهم وذلك لأن ولد الحيوان من جنسه ونوعه والذرية تطلق على الجنس ولهذا يطلق على النساء نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الذراري، أي النساء وذلك لأن المرأة وإن كانت صنفاً غير صنف الرجل لكنها من جنسه ونوعه يقال ذرارينا أي أمثالنا فقوله: { أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } أي أمثالهم وآباؤهم حينئذٍ تدخل فيهم الثالث: هو أن الضمير في قوله: { وَءَايَةٌ لَّهُمُ } عائد إلى العباد حيث قال:

السابقالتالي
2 3 4