الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ }

لما استدل بقوله تعالى: { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ } على الوحدانية، وبين بحكاية لقمان أن معرفة ذلك غير مختصة بالنبوة بل ذلك موافق للحكمة، وما جاء به النبـي عليه السلام من التوحيد والصلاة ومكارم الأخلاق كلها حكمة بالغة، ولو كان تعبداً محضاً للزم قبوله، فضلاً عن أنه على وفق الحكمة، استدل على الوحدانية بالنعمة لأنا بينا مراراً أن الملك يخدم لعظمته، وإن لم ينعم ويخدم لنعمته أيضاً، فلما بين أنه المعبود لعظمته بخلقه السموات بلا عمد وإلقائه في الأرض الرواسي. وذكر بعض النعم بقوله:وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء } [لقمان:10] ذكر بعده عامة النعم فقال: { سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ } أي سخر لأجلكم ما في السموات، فإن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمر الله وفيها فوائد لعباده، وسخر ما في الأرض لأجل عباده، وقوله: { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـٰهِرَةً } وهي ما في الأعضاء من السلامة { وَبَاطِنَةً } وهي ما في القوى فإن العضو ظاهر وفيه قوة باطنة، ألا ترى أن العين والأذن شحم وغضروف ظاهر، واللسان والأنف لحم وعظم ظاهر، وفي كل واحد معنى باطن من الأبصار والسمع والذوق والشم، وكذلك كل عضو، وقد تبطل القوة ويبقى العضو قائماً، وهذا أحسن مما قيل فإن على هذا الوجه يكون الاستدلال بنعمة الآفاق وبنعمة الأنفس فقوله: { مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } يكون إشارة إلى النعم الآفاقية، وقوله: { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـٰهِرَةً وَبَاطِنَةً } يكون إشارة إلى النعم الأنفسية، وفيهما أقوال كثيرة مذكورة في جميع كتب التفاسير، ولا يبعد أن يكون ما ذكرناه مقولاً منقولاً، وإن لم يكن فلا يخرج من أن يكون سائغاً معقولاً. ثم قال تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ } يعني لما ثبت الوحدانية بالخلق والإنعام فمن الناس من يجادل في الله ويثبت غيره، إما إلهاً أو منعماً { بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ } هذه أمور ثلاثة مرتبة العلم والهدى والكتاب، والعلم أعلى من الهدى والهدى من الكتاب، وبيانه هو أن العلم تدخل فيه الأشياء الواضحة اللائحة التي تعلم من غير هداية هاد، ثم الهدى يدخل فيه الذي يكون في كتاب والذي يكون من إلهام ووحي، فقال تعالى: { يُجَـٰدِلُ } ذلك المجادل لا من علم واضح، ولا من هدى أتاه من هاد، ولا من كتاب وكأن الأول إشارة إلى من أوتي من لدنه علماً كما قال تعالى:وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [النساء: 113] والثاني: إشارة إلى مرتبة من هدى إلى صراط مستقيم بواسطة كما قال تعالى:عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [النجم: 5] والثالث: إشارة إلى مرتبة من اهتدى بواسطتين ولهذا قال تعالى:الم * ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ }

السابقالتالي
2