الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } * { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } * { وَمَآ أَنتَ بِهَادِ ٱلْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ }

لما بين أنهم عند توقف الخير يكونون مبلسين آيسين، وعند ظهوره يكونون مستبشرين، بين أن تلك الحالة أيضاً لا يدومون عليها، بل لو أصاب زرعهم ريح مصفر لكفروا فهم منقلبون غير ثابتين لنظرهم إلى الحال لا إلى المآل، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال في الآية الأولى { يُرْسِلُ ٱلرّيَاحَ } على طريقة الإخبار عن الإرسال، وقال ههنا { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا } لا على طريقة الإخبار عن الإرسال، لأن الرياح من رحمته وهي متواترة، والريح من عذابه وهو تعالى رؤوف بالعباد يمسكها، ولذلك نرى الرياح النافعة تهب في الليالي والأيام في البراري والآكام، وريح السموم لا تهب إلا في بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة. المسألة الثانية: سمى النافعة رياحاً والضارة ريحاً لوجوه أحدها: النافعة كثيرة الأنواع كثيرة الأفراد فجمعها، فإن كل يوم وليلة تهب نفحات من الرياح النافعة، ولا تهب الريح الضارة في أعوام، بل الضارة في الغالب لا تهب في الدهور الثاني: هو أن النافعة لا تكون إلا رياحاً فإن ما يهب مرة واحدة لا يصلح الهواء ولا ينشىء السحاب ولا يجري السفن، وأما الضارة بنفحة واحدة تقتل كريح السموم الثالث: هو أن الريح المضرة إما أن تضر بكيفيتها أو بكميتها، أما الكيفية فهي إذا كانت حارة أو متكيفة بكيفية سم، وهذا لا يكون للريح في هبوبها وإنما يكون بسبب أن الهواء الساكن في بقعة فيها حشائش رديئة أو في موضع غائر وهو حار جداً، أو تكون متكونة في أول تكونها كذلك وكيفما كان فتكون واحدة، لأن ذلك الهواء الساكن إذا سخن ثم ورد عليه ريح تحركه وتخرجه من ذلك المكان فتهب على مواضع كاللهيب، ثم ما يخرج بعد ذلك من ذلك المكان لا يكون حاراً ولا متكيفاً، لأن المكث الطويل شرط التكيف، ألا ترى أنك لو أدخلت إصبعك في نار وأخرجتها بسرعة لا تتأثر، والحديد إذا مكث فيها يذوب، فإذا تحرك ذلك الساكن وتفرق لا يوجد في ذلك الوقت غيره من جنسه، وأما المتولدة كذلك فنادرة وموضع ندرتها واحد. وأما الكمية فالرياح إذا اجتمعت وصارت واحدة صارت كالخلجان، ومياه العيون إذا اجتمعت تصير نهراً عظيماً لا تسده السدود ولا يرده الجلمود، ولا شك أن في ذلك تكون واحدة مجتمعة من كثير، فلهذا قال في المضرة ريح وفي النافعة رياح. ثم إنه تعالى لما علم رسوله أنواع الأدلة وأصناف الأمثلة ووعد وأوعد ولم يزدهم دعاؤه إلا فراراً، وإنباؤه إلا كفراً وإضراراً، قال له: { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } وفيه مسائل: المسألة الأولى: في الترتيب فنقول إرشاد الميت محال، والمحال أبعد من الممكن، ثم إرشاد الأصم صعب فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم ما يفهمه بالإشارة لا غير، والإفهام بالإشارة صعب، ثم إرشاد الأعمى أيضاً صعب، فإنك إذا قلت له الطريق على يمينك يدور إلى يمينه، لكنه لا يبقى عليه بل يحيد عن قريب وإرشاد الأصم أصعب، فلهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسهل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع شيئاً، لأن غاية الإفهام بالكلام، فإن ما لا يفهم بالإشارة يفهم بالكلام وليس كل ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة، فإن المعدوم والغائب لا إشارة إليهما فقال أولا لا تسمع الموتى، ثم قال ولا الأصم ولا تهدي الأعمى الذي دون الأصم.

السابقالتالي
2