الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } * { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

اعلم أنه تعالى لما بيّن أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بيّن علو درجات الرسل وشرف مناصبهم فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَى آدَمَ } وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن المخلوقات على قسمين: المكلف وغير المكلف واتفقوا على أن المكلف أفضل من غير المكلف، واتفقوا على أن أصناف المكلف أربعة: الملائكة، والإنس والجن، والشياطين، أما الملائكة، فقد روي في الأخبار أن الله تعالى خلقهم من الريح ومنهم من احتج بوجوه عقلية على صحة ذلك فالأول: أنهم لهذا السبب قدروا على الطيران على أسرع الوجوه والثاني: لهذا السبب قدروا على حمل العرش، لأن الريح تقوم بحمل الأشياء الثالث: لهذا السبب سموا روحانيين، وجاء في رواية أخرى أنهم خلقوا من النور، ولهذا صفت وأخلصت لله تعالى والأولى أن يجمع بين القولين فنقول: أبدانهم من الريح وأرواحهم من النور فهؤلاء هم سكان عالم السمٰوات، أما الشياطين فهم كفرة أما إبليس فكفره ظاهر لقوله تعالى:وَكَانَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } [البقرة: 34] وأما سائر الشياطين فهم أيضاً كفرة بدليل قوله تعالى:وَإِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَـٰدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [الأنعام: 121] ومن خواص الشياطين أنهم بأسرها أعداء للبشر قال تعالى:فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } [الكهف: 50] وقال:وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنّ } [الأنعام: 112] ومن خواص الشياطين كونهم مخلوقين من النار قال الله تعالى حكاية عن إبليسخَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف: 12] وقال:وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَـٰهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } [الحجر: 27] فأما الجن فمنهم كافر ومنهم مؤمن، قال تعالى:وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَـٰسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } [الجن: 14] أما الإنس فلا شك أن لهم والداً هو والدهم الأول، وإلا لذهب إلى ما لا نهاية والقرآن دلّ على أن ذلك الأول هو آدم صلى الله عليه وسلم على ما قال تعالى في هذه السورةإِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران: 59] وقال:يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [النساء: 1]. إذا عرفت هذا فنقول: اتفق العلماء على أن البشر أفضل من الجن والشياطين، واختلفوا في أن البشر أفضل أم الملائكة، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله تعالى:ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ } [الأعراف: 11] والقائلون بأن البشر أفضل تمسكوا بهذه الآية، وذلك لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة وعلو الدرجة، فلما بيّن تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة لكونهم من العالمين. فإن قيل: إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محال، ولو حملناه على كونه أفضل عالمي زمانه أو عالمي جنسه لم يلزم التناقض، فوجب حمله على هذا المعنى دفعاً للتناقض وأيضاً قال تعالى في صفة بني إسرائيل

السابقالتالي
2 3 4 5