الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ }

في الآية مسائل: المسألة الأولى: في المنادي قولان: أحدهما: أنه محمد عليه الصلاة والسلام وهو قول الأكثرين، والدليل عليه قوله تعالى:ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبّكَ } [النحل: 125]وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ } [الأحزاب: 46]أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ } [يوسف: 108] والثاني: أنه هو القرآن، قالوا إنه تعالى حكى عن مؤمني الانس ذلك كما حكى عن مؤمني الجن قوله:إنَّا سمعنا قرآناً عجباً يَهْدِى إِلَى ٱلرُّشْدِ فَـئَامَنَّا بِهِ } [الجن: 1، 2] قالوا: والدليل على أن تفسير الآية بهذا الوجه أولى لأنه ليس كل أحد لقي النبي صلى الله عليه وسلم، أما القرآن فكل أحد سمعه وفهمه، قالوا: وهذا وان كان مجازا إلا أنه مجاز متعارف، لأن القرآن لما كان مشتملا على الرشد، وكان كل من تأمله وصل به إلى الهدى إذا وفقه الله تعالى لذلك، فصار كأنه يدعو الى نفسه وينادي بما فيه من أنواع الدلائل، كما قيل في جهنم:تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ } [المعارج: 17] إذ كان مصيرهم اليها، والفصحاء والشعراء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ، ومرادهم منها دلالة تصاريف الزمان، قال الشاعر:
يا واضع الميت في قبره   خاطبك الدهر فلم تسمع
المسألة الثانية: في قوله: { يُنَادِى لِلإِيمَـٰنِ } وجوه: الأول: ان اللام بمعنى «إلى» كقوله:ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [المجادلة: 8]ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } [المجادلة: 3]بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [الزلزلة: 5]ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى هَدَانَا لِهَـٰذَا } [الأعراف: 43] ويقال: دعاه لكذا والى كذا، وندبه له واليه، وناداه له وإليه، وهداه للطريق واليه، والسبب في إقامة كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى: أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص حاصلان جميعا. الثاني: قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير، أي سمعنا مناديا للايمان ينادي بأن آمنوا، كما يقال: جاءنا منادي الأمير ينادي بكذا وكذا. والثالث: أن هذه اللام لام الأجل والمعنى: سمعنا مناديا كان نداؤه ليؤمن الناس، أي كان المنادي ينادي لهذا الغرض، ألا تراه قال: { أن آمنوا بربكم } أي لتؤمن الناس، وهو كقوله:وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [النساء: 64]. المسألة الثالثة: قوله: { سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى } نظيره قولك: سمعت رجلا يقول كذا، وسمعت زيدا يتكلم، فيوقع الفعل على الرجل ويحذف المسموع، لأنك وصفته بما يسمع وجعلته حالا عنه فأغناك عن ذكره، ولأن الوصف أو الحال لم يكن بد منه، وأنه يقال: سمعت كلام فلان أو قوله. المسألة الرابعة: ههنا سؤال وهو أن يقال: ما الفائدة في الجمع بين المنادي وينادي؟ وجوابه: ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالايمان تفخيما لشأن المنادي، لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان، ونظيره قولك: مررت بهاد يهدي للاسلام، وذلك لأن المنادي اذا أطلق ذهب الوهم الى مناد للحرب، أو لاطفاء النائرة، أو لاغاثة المكروب، أو الكفاية لبعض النوازل، وكذلك الهادي، وقد يطلق على من يهدي للطريق، ويهدي لسداد الرأي، فاذا قلت ينادي للايمان ويهدي للاسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته.

السابقالتالي
2 3