الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }

اعلم أن في وجه النظم وجوها: الأول: أنه تعالى لما بين خطأ من نسبه الى الغلول والخيانة أكد ذلك بهذه الآية، وذلك لأن هذا الرسول ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم، ولم يظهر منه طول عمره الا الصدق والأمانة والدعوة الى الله والإعراض عن الدنيا، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة. الوجه الثاني: أنه لما بين خطأهم في نسبته الى الخيانة والغلول قال: لا أقنع بذلك ولا أكتفي في حقه بأن أبين براءته عن الخيانة والغلول، ولكني أقول: إن وجوده فيكم من أعظم نعمتي عليكم فانه يزكيكم عن الطريق الباطلة، ويعلمكم العلوم النافعة لكم في دنياكم وفي دينكم، فأي عاقل يخطر بباله أن ينسب مثل هذا الانسان الى الخيانة. الوجه الثالث: كأنه تعالى يقول: إنه منكم ومن أهل بلدكم ومن أقاربكم، وأنتم أرباب الخمول والدناءة، فاذا شرفه الله تعالى وخصه بمزايا الفضل والاحسان من جميع العالمين، حصل لكم شرف عظيم بسبب كونه فيكم، فطعنكم فيه واجتهادكم في نسبة القبائح اليه على خلاف العقل. الوجه الرابع: أنه لما كان في الشرف والمنقبة بحيث يمن الله به على عباده وجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه، فوجب عليكم أن تحاربوا أعداءه وأن تكونوا معه باليد واللسان والسيف والسنان، والمقصود منه العود الى ترغيب المسلمين في مجاهدة الكفار وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: للمن في كلام العرب معان: أحدها: الذي يسقط من السماء وهو قوله:وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ } [البقرة: 57] وثانيها: أن تمن بما أعطيت وهو قوله:لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَـٰتِكُم بِٱلْمَنّ وَٱلأَذَىٰ } [البقرة: 264] وثالثها: القطع وهو قوله:لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون } [فصلت: 8] { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } ورابعها: الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه، ومنه قوله:هَـٰذَا عَطَاؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ } [صۤ: 39] وقوله: { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } والمنان في صفة الله تعالى: المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا وقوله: { لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ } أي أنعم عليهم وأحسن اليهم ببعثه هذا الرسول. المسألة الثانية: أن بعثة الرسول إحسان الى كل العالمين، وذلك لأن وجه الاحسان في بعثته كونه داعيا لهم الى ما يخلصهم من عقاب الله ويوصلهم الى ثواب الله، وهذا عام في حق العالمين، لأنه مبعوث الى كل العالمين، كما قال تعالى:وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ } [سبأ: 28] إلا أنه لما لم ينتفع بهذا الانعام الا أهل الاسلام، فلهذا التأويل خص تعالى هذه المنة بالمؤمنين، ونظيره قوله تعالى:هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] مع أنه هدى للكل، كما قال:هُدًى لّلنَّاسِ } [البقرة: 185] وقوله:إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـٰهَا } [النازعات: 45]. المسألة الثالثة: اعلم أن بعثة الرسول إحسان من الله إلى الخلق ثم إنه لما كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجه الانعام في بعثة الرسل أكثر، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت مشتملة على الأمرين: أحدهما: المنافع الحاصلة من أصل البعثة، والثاني: المنافع الحاصلة بسب ما فيه من الخصال التي ما كانت موجودة في غيره.

السابقالتالي
2 3