الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ }

قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى:لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } [العنكبوت: 7] أن أثر رحمة الله في أمرين في الأمان من سوء العذاب والامتنان بحسن الثواب وهو واصل إلى المؤمن في الدار الآخرة قطعاً بحكم وعد الله نفي العذاب عنه لنفيه الشرك وإثبات الثواب لإثباته الواحد، ولكن هذا ليس بواجب الحصول في الدنيا، فإن كثيراً ما يكون الكافر في رغد والمؤمن جائع في يومه متفكر في أمر غده لكنهما مطلوبان في الدنيا، أما دفع العذاب العاجل فلأنه ورد في دعاء النبـي صلى الله عليه وسلم، قوله: " وقنا عذاب الفقر والنار " فعذاب الفقر إشارة إلى دفع العذاب العاجل، وأما الثواب العاجل ففي قوله:رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلأَخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة: 201] إذا علم هذا فنقول إن إبراهيم عليه السلام لما أتى ببيان التوحيد أولا دفع الله عنه عذاب الدنيا وهو عذاب النار، ولما أتى به مرة بعد مرة مع إصرار القوم عى التكذيب وإضرارهم به بالتعذيب، أعطاه الجزاء الآخر، وهو الثواب العاجل وعدده عليه بقوله: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ } وفي الآية لطيفة: وهي أن الله بدل جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها لما أراد القوم تعذيبه بالنار وكان وحيداً فريداً فبدل وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته، ولما كان أولا قومه وأقاربه القريبة ضالين مضلين من جملتهم آزر، بدل الله أقاربه بأقارب مهتدين هادين وهم ذريته الذين جعل الله فيهم النبوة والكتاب، وكان أولا لا جاه له ولا مال وهما غاية اللذة الدنيوية آتاه الله أجره من المال والجاه، فكثر ماله حتى كان له من المواشي ما علم الله عدده، حتى قيل إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق ذهب، وأما الجاه فصار بحيث يقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة، فصار معروفاً بشيخ المرسلين بعد أن كان خاملاً، حتى قال قائلهم:سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرٰهِيمُ } [الأنبياء: 60] وهذا الكلام لا يقال إلا في مجهول بين الناس، ثم إن الله تعالى قال: { وَإِنَّهُ فِى ٱلأَخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } يعني ليس له هذا في الدنيا فحسب كما يكون لمن قدم له ثواب حسناته أو أملى له استدراجاً ليكثر من سيئاته بل هذا له عجالة وله في الآخرة ثواب الدلالة والرسالة وهو كونه من الصالحين، فإن كون العبد صالحاً أعلى مراتبه، لما بينا أن الصالح هو الباقي على ما ينبغي، يقال الطعام بعد صالح، أي هو باق على ما ينبغي، ومن بقي على ما ينبغي لا يكون في عذاب، ويكون له كل ما يريد من حسن ثواب وفي الآية مسألتان: المسألة الأولى: أن إسماعيل كان من أولاده الصالحين، وكان قد أسلم لأمر الله بالذبح وانقاد لحكم الله، فلم لم يذكر؟ فيقال هو مذكور في قوله: { وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ } ولكن لم يصرح باسمه لأنه كان غرضه تبيين فضله عليه بهبة الأولاد والأحفاد، فذكر من الأولاد واحداً وهو الأكبر، ومن الأحفاد واحداً وهو الأظهر كما يقول القائل إن السلطان في خدمته الملوك والأمراء الملك الفلاني والأمير الفلاني ولا يعدد الكل لأن ذكر ذلك الواحد لبيان الجنس لا لخصوصيته ولو ذكر غيره لفهم منه التعديد واستيعاب الكل بالذكر، فيظن أنه ليس معه غير المذكورين.

السابقالتالي
2