الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }

لما خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفار وبيان فساد ما هم عليه، وقال إذا بينت لكم فساد مذهبكم وما كان لكم جواب ولا ترجعون عنه، فليس هذا إلا تقليداً، فإن بين بعضكم وبعض مودة فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في السيرة والطريقة أو بينكم وبين آبائكم مودة فورثتموهم وأخذتم مقالتهم ولزمتم ضلالتهم وجهالتهم فقوله: { إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ... مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ } يعني ليس بدليل أصلا وفيه وجه آخر وهو تحقيق دقيق، وهو أن يقال قوله: { إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ... مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ } أي مودة بين الأوثان وبين عبدتها، وتلك المودة هي أن الإنسان مشتمل على جسم وعقل، ولجسمه لذات جسمانية ولعقله لذات عقلية، ثم إن من غلبت فيه الجسمية لا يلتفت إلى اللذات العقلية، ومن غلبت عليه العقلية لا يلتفت إلى اللذات الجسمانية، كالمجنون إذا احتاج إلى قضاء حاجة من أكل أو شرب أو إراقة ماء وهو بين قوم من الأكابر في مجمع يحصل ما فيه لذة جسمه من الأكل وإراقة الماء وغيرهما ولا يلتفت إلى اللذة العقلية من حسن السيرة وحمد الأوصاف ومكرمة الأخلاق. والعاقل يحمل الألم الجسماني ويحصل اللذة العقلية، حتى لو غلبت قوته الدافعة على قوته الماسكة وخرج منه ريح أو قطرة ماء يكاد يموت من الخجالة والألم العقلي. إذا ثبت هذا فهم كانوا قليلي العقل غلبت الجسمية عليهم فلم يتسع عقلهم لمعبود لا يكون فوقهم ولا تحتهم، ولا يمينهم ولا يسارهم، ولا قدامهم ولا وراءهم، ولا يكون جسماً من الأجسام، ولا شيئاً يدخل في الأوهام، ورأوا الأجسام المناسبة للغالب فيهم مزينة بجواهر فودوها فاتخاذهم الأوثان كان مودة بينهم وبين الأوثان، ثم قال تعالى: { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } يعني يوم يزول عمى القلوب وتتبين الأمور للبيب والغفول يكفر بعضكم ببعض ويعلم فساد ما كان عليه فيقول العابد ما هذا معبودي، ويقول المعبود ما هؤلاء عبدتي ويلعن بعضكم بعضاً، ويقول هذا لذاك أنت أوقعتني في العذاب حيث عبدتني، ويقول ذاك لهذا أنت أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادتك، ويريد كل واحد أن يبعد صاحبه باللعن ولا يتباعدون، بل هم مجتمعون في النار كما كانوا مجتمعين في هذه الدار كما قال تعالى: { وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } ثم قال تعالى: { وَمَا لَكُمْ مّن نَّـٰصِرِينَ } يعني ليس تلك النار مثل ناركم التي أنجى الله منها إبراهيم ونصره فأنتم في النار ولا ناصر لكم، وههنا مسائل: المسألة الأولى: قال قبل هذاوَمَا لَكُم مّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } [العنكبوت:22] على لفظ الواحد، وقال ههنا على لفظ الجمع { وَمَا لَكُمْ مّن نَّـٰصِرِينَ } والحكمة فيه أنهم لما أرادوا إحراق إبراهيم عليه السلام قالوا نحن ننصر آلهتنا كما حكى الله تعالى عنهم

السابقالتالي
2