الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ الۤـمۤ } * { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }

المسألة الأولى: في تعلق أول هذه السورة بما قبلها وفيه وجوه الأول: لما قال الله تعالى قبل هذه السورة:إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ } [القصص: 85] وكان المراد منه أن يرده إلى مكة ظاهراً غالباً على الكفار ظافراً طالباً للثأر، وكان فيه احتمال مشاق القتال صعب على البعض ذلك فقال الله تعالى: { آلم أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا } ولا يؤمروا بالجهاد الوجه الثاني: هو أنه تعالى لما قال في أواخر السورة المتقدمةوَٱدْعُ إِلَىٰ رَبّكَ } [القصص: 87] وكان في الدعاء إليه الطعان والحراب والضراب، لأن النبـي عليه السلام وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن الكفار بمجرد الدعاء فشق على البعض ذلك فقال: { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ } الوجه الثالث: هو أنه تعالى لما قال في آخر السورة المتقدمة { كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه } ذكر بعده ما يبطل قول المنكرين للحشر فقال:لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [القصص:88] يعني ليس كل شيء هالكاً من غير رجوع بل كل هالك وله رجوع إلى الله. إذا تبين هذا، فاعلم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف فإنها مشاق في الحال ولا فائدة لها في المآل إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوال، فلا فائدة فيها. فلما بين الله أنهم إليه يرجعون بين أن الأمر ليس على ما حسبوه، بل حسن التكليف ليثيب الشكور ويعذب الكفور فقال: { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ } غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم. المسألة الثانية: في حكمة افتتاح هذه السورة بحروف من التهجي، ولنقدم عليه كلاماً كلياً في افتتاح السور بالحروف فنقول: الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو من يكون مشغول البال بشغل من الأشغال يقدم على الكلام المقصود شيئاً غيره ليلتفت المخاطب بسببه إليه ويقبل بقلبه عليه، ثم يشرع في المقصود. إذا ثبت هذا فنقول ذلك المقدم على المقصود قد يكون كلاماً له معنى مفهوم، كقول القائل اسمع، واجعل بالك إلي، وكن لي، وقد يكون شيئاً هو في معنى الكلام المفهوم كقول القائل أزيد ويازيد وألا يازيد، وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتاً غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه، وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه. ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والكلام المقصود كان أهم، كان المقدم على المقصود أكثر. ولهذا ينادي القريب بالهمزة فيقال أزيد والبعيد بيا فيقال يا زيد، والغافل ينبه أولاً فيقال ألا يا زيد. إذا ثبت هذا فنقول إن النبـي صلى الله عليه وسلم وإن كان يقظان الجنان لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن فكان يحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبهات، ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف التي لها معنى، لأن تقديم الحروف إذا كان لإقبال السامع على المتكلم لسماع ما بعد ذلك فإذا كان ذلك المقدم كلاماً منظوماً وقولا مفهوماً فإذا سمعه السامع ربما يظن أنه كل المقصود ولا كلام له بعد ذلك فيقطع الالتفات عنه.

السابقالتالي
2 3 4