الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } * { وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } * { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } * { وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } * { وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ }

اعلم أنه تعالى لما حكى عنه أنه استثنى رب العالمين، حكى عنه أيضاً ما وصفه به مما يستحق العبادة لأجله، ثم حكى عنه ما سأله عنه، أما الأوصاف فأربعة: أولها: قوله: { ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ }. واعلم أنه سبحانه أثنى على نفسه بهذين الأمرين في قوله:ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [الأعلى: 2، 3] واعلم أن الخلق والهداية بهما يحصل جميع المنافع لكل من يصح الانتفاع عليه، فلنتكلم في الإنسان فنقول إنه مخلوق، فمنهم من قال هو من عالم الخلق والجسمانيات، ومن قال هو من عالم الأمر الروحانيات، وتركيب البدن الذي هو من عالم الخلق مقدم على إعطاء القلب الذي هو من عالم الأمر على ما أخبر عنه سبحانه في قوله:فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } [ص: 72] فالتسوية إشارة إلى تعديل المزاج وتركيب الأمشاج، ونفخ الروح إشارة إلى اللطيفة الربانية النورانية التي هي من عالم الأمر، وأيضاً قال:وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ مِن سُلَـٰلَةٍ مّن طِينٍ } [المؤمنون: 12] ولما تمم مراتب تغيرات الأجسام قال:ثم أنشأناه خلقاً آخر } [المؤمنون: 14] وذلك إشارة إلى الروح الذي هو من عالم الملائكة، ولا شك أن الهداية إنما تحصل من الروح، فقد ظهر بهذه الآيات أن الخلق مقدم على الهداية. أما تحقيقه بحسب المباحث الحقيقية، فهو أن بدن الإنسان إنما يتولد عند امتزاج المني بدم الطمث، وهما إنما يتولدان من الأغذية المتولدة من تركب العناصر الأربعة وتفاعلها، فإذا امتزج المني بالدم فلا يزال ما فيها من الحار والبارد والرطب واليابس متفاعلاً، وما في كل واحد منها من القوى كاسراً سورة كيفية الآخر، فحينئذ يحصل من تفاعلهما كيفية متوسطة تستحر بالقياس إلى البارد وتستبرد بالقياس إلى الحار، وكذا القول في الرطب واليابس، وحينئذ يحصل الاستعداد لقبول قوى مدبرة لذلك المركب فبعضها قوى نباتية وهي التي تجذب الغذاء، ثم تمسكه ثم تهضمه ثم تدفع الفضلة المؤذية، ثم تقيم تلك الأجزاء بدل ما تحلل منها، ثم تزيد في جوهر الأعضاء طولاً وعرضاً، ثم يفضل عن تلك المواد فضلة يمكن أن يتولد عنها مثل ذلك، ومنها قوى حيوانية بعضها مدركة كالحواس الخمس والخيال والحفظ والذكر، وبعضها فاعلة: إما آمرة كالشهوة والغضب أو مأمورة كالقوى المركوزة في العضلات، ومنها قوى إنسانية وهي إما مدركة أو عاملة، والقوى المدركة هي القوى القوية على إدراك حقائق الأشياء الروحانية والجسمانية والعلوية والسفلية، ثم إنك إذا فتشت عن كل واحدة من مركبات هذا العالم الجسماني، ومفرداتها وجدت لها أشياء تلائمها وتكمل حالها وأشياء تنافرها وتفسد حالها، ووجدت فيها قوى جذابة للملائم دفاعة للمنافي، فقد ظهر أن صلاح الحال في هذه الأشياء لا يتم إلا بالخلق والهداية.

السابقالتالي
2 3