الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } * { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } * { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } * { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } * { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }

اعلم أن قوله: { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } مبتدأ خبره في آخر السورة كأنه قيل وعباد الرحمن الذين هذه صفاتهم أولئك يجزون الغرفة، ويجوز أن يكون خبره { ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ } ، واعلم أنه سبحانه خص اسم العبودية بالمشتغلين بالعبودية، فدل ذلك على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوقات، وقرىء { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } واعلم أنه سبحانه وصفهم بتسعة أنواع من الصفات: الصفة الأولى: قوله: { ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } وهذا وصف سيرتهم بالنهار وقرىء { يَمْشُونَ } { هَوْناً } حال أو صفة للمشي بمعنى هينين أو بمعنى مشياً هيناً، إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة، والهون الرفق واللين ومنه الحديث " أحبب حبيبك هوناً ما " وقوله: " المؤمنون هينون لينون " والمعنى أن مشيهم يكون في لين وسكينة ووقار وتواضع، ولا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً، ولا يتبخترون لأجل الخيلاء كما قال:وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلأَرْضِ مَرَحًا } [الإسراء: 37] وعن زيد بن أسلم التمست تفسير { هَوْناً } فلم أجد، فرأيت في النوم فقيل لي هم الذين لا يريدون الفساد في الأرض، وعن ابن زيد لا يتكبرون ولا يتجبرون ولا يريدون علواً في الأرض. الصفة الثانية: قوله تعالى: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } معناه لا نجاهلكم ولا خير بيننا ولا شر أي نسلم منكم تسليماً، فأقيم السلام مقام التسليم، ثم يحتمل أن يكون مرادهم طلب السلامة والسكوت، ويحتمل أن يكون المراد التنبيه على سوء طريقتهم لكي يمتنعوا، ويحتمل أن يكون مرادهم العدول عن طريق المعاملة، ويحتمل أن يكون المراد إظهار الحلم في مقابلة الجهل، قال الأصم: { قَالُواْ سَلاَماً } أي سلام توديع لا تحية، كقول إبراهيم لأبيه:سَلَـٰمٌ عَلَيْكَ } [مريم: 47] ثم قال الكلبي وأبو العالية نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ذلك لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في العقل والشرع وسبب لسلامة العرض والورع. الصفة الثالثة: قوله: { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـٰماً } واعلم أنه تعالى لما ذكر سيرتهم في النهار من وجهين: أحدهما: ترك الإيذاء، وهو المراد من قوله: { يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } والآخر تحمل التأذي، وهو المراد من قوله: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } فكأنه شرح سيرتهم مع الخلق في النهار، فبين في هذه الآيات سيرتهم في الليالي عند الاشتغال بخدمة الخالق وهو كقوله:تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } [السجدة: 16] ثم قال الزجاج: كل من أدركه الليل قيل بات وإن لم ينم كما يقال بات فلان قلقاً، ومعنى { يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ } أن يكونوا في لياليهم مصلين، ثم اختلفوا فقال بعضهم: من قرأ شيئاً من القرآن في صلاة وإن قل، فقد بات ساجداً وقائماً، وقيل ركعتين بعد المغرب وأربعاً بعد العشاء الأخيرة، والأولى أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره يقال فلان يظل صائماً ويبيت قائماً، قال الحسن يبيتون لله على أقدامهم ويفرشون له وجوههم تجري دموعهم على خدودهم خوفاً من ربهم.

السابقالتالي
2 3