الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَٰدِرُونَ } * { فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } * { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ }

اعلم أن الماء في نفسه نعمة وأنه مع ذلك سبب لحصول النعم فلا جرم ذكره الله تعالى أولاً ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانياً. أما قوله تعالى: { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمآء مَآءً بِقَدَرٍ } فقد اختلفوا في السماء فقال الأكثرون من المفسرين إنه تعالى ينزل الماء في الحقيقة من السماء وهو الظاهر من اللفظ ويؤكده قوله:وَفِي ٱلسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات: 22] وقال بعضهم المراد السحاب وسماه سماء لعلوه، والمعنى أن الله تعالى أصعد الأجزاء المائية من قعر الأرض إلى البحار ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد، ثم إن تلك الذرات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله تعالى على قدر الحاجة إليه، ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض ولا بماء البحار لملوحته ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض لأن البحار هي الغاية في العمق، واعلم أن هذه الوجوه إنما يتمحلها من ينكر الفاعل المختار فأما من أقربه فلا حاجة به إلى شيء منها. أما قوله تعالى: { بِقَدَرٍ } فمعناه بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة في الزرع والغرس والشرب، أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم. أما قوله: { فَأَسْكَنَّاهُ فِى ٱلأَرْضِ } قيل معناه جعلناه ثابتاً في الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، ثم يرفعها عند خروج يأجوج ومأجوج ويرفع أيضاً القرآن. أماقوله: { وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَـٰدِرُونَ } أي كما قدرنا على إنزاله فكذلك نقدر على رفعه وإزالته، قال صاحب «الكشاف» وقوله: { عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ } من أوقع النكرات وأخرها للفصل. والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه. وفيه إيذان بكمال اقتدار المذهب وأنه لا يعسر عليه شيء وهو أبلغ في الإيعاد من قوله:قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ } [الملك: 30] ثم إنه سبحانه لما نبه على عظيم نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال: { فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّـٰتٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـٰبٍ } وإنما ذكر تعالى النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام ومقام الأدام ومقام الفواكه رطباً ويابساً وقوله: { لَّكُمْ فِيهَا فَوٰكِهُ كَثِيرَةٌ } أي في الجنات، فكما أن فيها النخيل والأعناب ففيها الفواكه الكثيرة وقوله: { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } قال صاحب «الكشاف» يجوز أن يكون هذا من قولهم فلان يأكل من حرفة يحترفها ومن صنعة يعملها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها تتعيشون.

السابقالتالي
2