الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ }

اعلم أن قوله تعالى: { وَٱلْبُدْنَ } فيه مسائل: المسألة الأولى: البدن جمع بدنة كخشب وخشبة، سميت بذلك إذا أهديت للحرم لعظم بدنها وهي الإبل خاصة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق البقر بالإبل حين قال: " البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة " ولأنه قال: { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } وهذا يختص بالإبل فإنها تنحر قائمة دون البقر، وقال قوم البدن الإبل والبقر التي يتقرب بها إلى الله تعالى في الحج والعمرة، لأنه إنما سمى بذلك لعظم البدن فالأولى دخولها فيه، أما الشاة فلا تدخل وإن كانت تجوز في النسك لأنها صغيرة الجسم فلا تسمى بدنة. المسألة الثانية: قرأ الحسن والبدن بضمتين كثمر في جمع ثمرة، وابن أبي إسحق بالضمتين وتشديد النون على لفظ الوقف، وقرىء بالنصب والرفع كقوله:وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَـٰهُ مَنَازِلَ } [يس:39] والله أعلم. المسألة الثالثة: إذا قال لله عليَّ بدنة، هل يجوز له نحرها في غير مكة؟ قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يجوز، وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجوز إلا بمكة واتفقوا فيمن نذر هدياً أن عليه ذبحه بمكة، ولو قال: لله عليَّ جزور، أنه يذبحه حيث شاء، وقال أبو حنيفة رحمه الله البدنة بمنزلة الجزور فوجب أن يجوز له نحرها حيث يشاء بخلاف الهدي فإنه تعالى قال:هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ } [المائدة:95] فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدي، واحتج أبو يوسف رحمه الله بقوله تعالى: { وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَـٰهَا لَكُمْ مّن شَعَـٰئِرِ ٱللَّهِ } فكان اسم البدنة يفيد كونها قربة فكان كاسم الهدي، أجاب أبو حنيفة رحمه الله بأنه ليس كل ما كان ذبحه قربة اختص بالحرم فإن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن. أما قوله تعالى: { جَعَلْنَـٰهَا لَكُمْ } فاعلم أنه سبحانه لما خلق البدن وأوجب أن تهدى في الحج جاز أن يقول { جَعَلْنَـٰهَا لَكُمْ مّن شَعَـٰئِرِ ٱللَّهِ } أما قوله: { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } فالكلام فيه ما تقدم في قوله:لَكُمْ فِيهَا مَنَـٰفِعُ } [الحج: 33] وإذا كان قوله: { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } كالترغيب فالأولى أن يراد به الثواب في الآخرة وما أخلق العاقل بالحرص على شيء شهد الله تعالى بأن فيه خيراً وبأن فيه منافع، أما قوله: { فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا } ففيه حذف أي اذكروا اسم الله على نحرها، قال المفسرون هو أن يقال عند النحر أو الذبح بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك، أما قوله: { صَوَآفَّ } ، فالمعنى قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن وقرىء صوافن من صفون الفرس، وهو أن تقوم على ثلاث وتنصب الرابعة على طرف سنبكه لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث، وقرىء صوافي أي خوالص لوجه الله تعالى لا تشركوا بالله في التسمية على نحرها أحداً كما كان يفعله المشركون، وعن عمرو ابن عبيد صوافياً بالتنوين عوضاً عن حرف الإطلاق عند الوقف، وعن بعضهم صوافي نحو قول العرب اعط القوس باريها ولا يبعد أن تكون الحكمة في إصفافها ظهور كثرتها للناظرين فتقوى نفوس المحتاجين ويكون التقرب بنحرها عند ذلك أعظم أجراً وأقرب إلى ظهور التكبير وإعلاء اسم الله وشعائر دينه، وأما قوله: { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } فاعلم أن وجوب الجنوب وقوعها على الأرض من وجب الحائط وجبة إذا سقط، ووجبت الشمس وجبة إذا غربت، والمعنى إذا سقطت على الأرض وذلك عند خروج الروح منها { فَكُلُواْ مِنْهَا } وقد ذكرنا اختلاف العلماء فيما يجوز أكله منها { وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَـٰنِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ } القانع السائل يقال قنع يقنع قنوعاً إذا سأل قال أبو عبيد هو الرجل يكون مع القوم يطلب فضلهم ويسأل معروفهم ونحوه، قال الفراء والمعنى الثاني القانع هو الذي لا يسأل من القناعة يقال قنع يقنع قناعة إذا رضي بما قسم له وترك السؤال، أما المعتر فقيل إنه المتعرض بغير سؤال، وقيل إنه المتعرض بالسؤال قال الأزهري قال ابن الأعرابي يقال عروت فلاناً وأعررته وعروته واعتريته إذا أتيته تطلب معروفه ونحوه، قال أبو عبيد والأقرب أن القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح، والمعتر هو الذي يتعرض ويطلب ويعتريهم حالاً بعد حال فيفعل ما يدل على أنه لا يقنع بما يدفع إليه أبداً وقرأ الحسن والمعتري وقرأ أبو رجاء القنع وهو الراضي لا غير يقال قنع فهو قنع وقانع.

السابقالتالي
2 3