الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ } * { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ } * { بَلْ مَتَّعْنَا هَـٰؤُلاۤءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ }

اعلم أنه تعالى لما بين أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجوههم النار بسائر ما وصفهم به أتبعه بأنهم في الدنيا أيضاً لولا أن الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا في السلامة فقال لرسوله: قل لهؤلاء الكفار الذين يستهزءون ويغترون بما هم عليه: { مَن يَكْلَؤُكُم بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } وهذا كقول الرجل لمن حصل في قبضته ولا مخلص له منه إلى أين مفرّك منى! هل لك محيص عني! والكالىء الحافظ. وأما قوله: { مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } ففيه مسائل: المسألة الأولى: في معناه وجوه: أحدها: { مَن يَكْلَؤُكُم مِنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } أي مما يقدر على إنزاله بكم من عذاب تستحقونه. وثانيها: من بأس الله في الآخرة. وثالثها: من القتل والسبي وسائر ما أباحه الله لكفرهم فبين سبحانه أنه لا حافظ لهم ولا دافع عن هذه الأمور لو أنزلها بهم ولولا تفضله بحفظهم لما عاشوا ولما متعوا بالدنيا. المسألة الثانية: إنما خص ههنا اسم الرحمن بالذكر تلقيناً للجواب حتى يقول العاقل: أنت الكالىء يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك، كما في قوله:مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ٱلْكَرِيمِ } [الانفطار: 6] إنما خص اسم الكريم بالذكر تلقيناً للجواب. المسألة الثالثة: إنما ذكر الليل والنهار لأن لكل واحد من الوقتين آفات تختص به والمعنى من يحفظكم بالليل إذا نمتم وبالنهار إذا تصرفتم في معايشكم. أما قوله: { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ } فالمعنى أنه تعالى مع إنعامه عليهم ليلاً ونهاراً بالحفظ والحراسة فهم عن ذكر ربهم الذي هو الدلائل العقلية والنقلية ولطائف القرآن معرضون فلا يتأملون في شيء منها ليعرفوا أنه لا كالىء لهم سواه ويتركون عبادة الأصنام التي لا حظ لها في حفظهم ولا في الإنعام عليهم. أما قوله تعالى: { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ } فاعلم أن الميم صلة يعني ألهم آلهة تكلؤهم من دوننا، والتقدير ألهم آلهة من تمنعهم. وتم الكلام ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال: { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ } وهذا خبر مبتدأ محذوف أي فهذه الآلهة لا تستطيع حماية أنفسها عن الآفات، وحماية النفس أولى من حماية الغير. فإذا لم تقدر على حماية نفسها فكيف تقدر على حماية غيرها، وفي قوله: { وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ } قولان: الأول: قال المازني: أصحبت الرجل إذا منعته فقوله: { وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ } من ذلك لا من الصحبة. الثاني: أن الصحبة ههنا بمعنى النصرة والمعونة وكلها سواء في المعنى يقال: صحبك الله ونصرك الله ويقال للمسافر: في صحبة الله وفي حفظ الله فالمعنى ولا هم منا في نصرة ولا إعانة، والحاصل أن من لا يكون قادراً على دفع الآفات ولا يكون مصحوباً من الله بالإعانة، كيف يقدر على شيء ثم بين سبحانه تفضله عليهم مع كل ذلك بقوله: { بَلْ مَتَّعْنَا هَـؤُلاء وَءابَاءهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ } يعني ما حملهم على الإعراض إلا الإغترار بطول المهلة.

السابقالتالي
2