الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قَالَ يٰهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوۤاْ } * { أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } * { قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِيۤ إِسْرَآءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي }

اعلم أن الطاعنين في عصمة الأنبياء عليهم السلام يتمسكون بهذه الآية من وجوه. أحدها: أن موسى عليه السلام إما أن يكون قد أمر هرون باتباعه أو لم يأمره، فإن أمره به فإما أن يكون هرون قد اتبعه أو لم يتبعه، فإن اتبعه كانت ملامة موسى لهٰرون معصية وذنباً لأن ملامة غير المجرم معصية. وإن لم يتبعه كان هـٰرون تاركاً للواجب فكان فاعلاً للمعصية، وأما إن قلنا: إن موسى عليه السلام ما أمره باتباعه كانت ملامته إياه بترك الاتباع معصية فثبت أن على جميع التقديرات يلزم إسناد المعصية إما إلى موسى أو إلى هرون. وثانيها: قول موسى عليه السلام: { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } استفهام على سبيل الإنكار فوجب أن يكون هـٰرون قد عصاه، وأن يكون ذلك العصيان منكراً، وإلا لكان موسى عليه السلام كاذباً وهو معصية، فإذا فعل هـٰرون ذلك فقد فعل المعصية. وثالثها: قوله: { يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى } وهذا معصية لأن هـٰرون عليه السلام قد فعل ما قدر عليه من النصيحة والوعظ والزجر، فإن كان موسى عليه السلام قد بحث عن الواقعة، وبعد أن علم أن هرون قد فعل ما قدر عليه كان الأخذ برأسه ولحيته معصية وإن فعل ذلك قبل تعرف الحال كان ذلك أيضاً معصية. ورابعها: إن هـٰرون عليه السلام قال: { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى } فإن كان الأخذ بلحيته وبرأسه جائزاً كان قول هـٰرون لا تأخذ منعاً له عما كان له أن يفعله فيكون ذلك معصية، وإن لم يكن ذلك الأخذ جائزاً كان موسى عليه السلام فاعلاً للمعصية فهذه أمثلة لطيفة في هذا الباب. والجواب عن الكل: أنا بينا في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى:فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ عَنْهَا } [البقرة: 36] أنواعاً من الدلائل الجلية في أنه لا يجوز صدور المعصية من الأنبياء، وحاصل هذه الوجوه تمسك بظواهر قابلة للتأويل ومعارضة ما يبعد عن التأويل بما يتسارع إليه التأويل غير جائز، إذا ثبتت هذه المقدمة فاعلم أن لنا في الجواب عن هذه الإشكالات وجوهاً. أحدها: أنا وإن اختلفنا في جواز المعصية على الأنبياء لكن اتفقنا على جواز ترك الأولى عليهم، وإن كان كذلك فالفعل الذي يفعله أحدهما ويمنعه الآخر أعني بهما موسى وهـٰرون عليهما السلام لعله كان أحدهما أولى والآخر كان ترك الأولى فلذلك فعَله أحدهما وتركه الآخر، فإن قيل هذا التأويل غير جائز لأن كل واحد منهما كان جازماً فيما يأتي به فعلاً كان أو تركاً وفعل المندوب وتركه لا يجزم به، قلنا: تقييد المطلق بالدليل غير ممتنع، فنحن نحمل ذلك الجزم في الفعل والترك على أن المراد افعل ذلك أو اتركه إن كنت تريد الأصلح، وقد يترك ذلك الشرط إذا كان تواطؤهما على رعايته معلوماً متقرراً.

السابقالتالي
2 3