اعلم أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون وكان ذلك تكليفاً شاقاً فلا جرم سأل ربه أموراً ثمانية، ثم ختمها بما يجري مجرى العلة لسؤال تلك الأشياء. المطلوب الأول: قوله: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } واعلم أنه يقال شرحت الكلام أي بينته وشرحت صدره أي وسعته والأول يقرب منه لأن شرح الكلام لا يحصل إلا ببسطة. والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر وهو قوله:{ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي } [الشعراء: 13] فسأل الله تعالى أن يبدل ذلك الضيق بالسعة، وقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } فأفهم عنك ما أنزلت علي من الوحي، وقيل: شجعني لأجترىء به على مخاطبة فرعون ثم الكلام فيه يتعلق بأمور. أحدها: فائدة الدعاء وشرائطه. وثانيها: ما السبب في أن الإنسان لا يذكر وقت الدعاء من أسماء الله تعالى إلا الرب. وثالثها: ما معنى شرح الصدر. ورابعها: بماذا يكون شرح الصدر. وخامسها: كيف كان شرح الصدر في حق موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم. وسادسها: صفة صدر موسى عليه السلام هل كان منشرحاً أو لم يكن منشرحاً، فإن كان منشرحاً كان طلب شرح الصدر تحصيلاً للحاصل وهو محال، وإن لم يكن منشرحاً فهو باطل من وجهين. الأول: أنه سبحانه بين له فيما تقدم كل ما يتعلق بالأديان من معرفة الربوبية والعبودية وأحوال المعاد وكل ما يتعلق بشرح الصدر في باب الدين فقد حصل، ثم إنه سبحانه تلطف له بقوله:{ وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [طه: 13] ثم كلمه على سبيل الملاطفة بقوله:{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } [طه: 17] ثم أظهر له المعجزات العظيمة والكرامات الجسيمة، ثم أعطاه منصب الرسالة بعد أن كان فقيراً وكل ما يتعلق به الإعزاز والإكرام فقد حصل، ولو أن ذرة من هذه المناصب حصلت لأدون الناس لصار منشرح الصدر فبعد حصولها لكليم الله تعالى يستحيل أن لا يصير منشرح الصدر. والثاني: أنه لما لم يصر منشرح الصدر بعد هذه الأشياء لم يجز من الله تعالى تفويض النبوة إليه فإن من كان ضيق القلب مشوش الخاطر لا يصلح للقضاء على ما قال عليه السلام: " لا يقضي القاضي وهو غضبان " فكيف يصلح للنبوة التي أقل مراتبها القضاء؟ فهذا مجموع الأمور التي لا بد من البحث عنها في هذه الآية. أما البحث الأول: وهو فائدة الدعاء وشرائطه فقد تقدم في تفسير قوله:{ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286] إلا أنه نذكر منها ههنا بعض الفوائد المتعلقة بهذا الموضع فنقول: اعلم أن للكمال مراتب ودرجات وأعلاها أن يكون كاملاً في ذاته مكملاً لغيره، أما كونه كاملاً في ذاته فكل ما كان كذلك كان كماله من لوازم ذاته، وكل ما كان كذلك كان كاملاً في الأزل ولكنه يستحيل أن يكون مكملاً في الأزل لأن التكميل عبارة عن جعل الشيء كاملاً وذلك لا يتحقق إلا عند عدم الكمال، فإنه لو كان حاصلاً في الأزل لاستحال التأثير فيه، فإن تحصيل الحاصل محال وتكوين الكائن ممتنع فلا جرم أنه سبحانه، وإن كان كاملاً في الأزل إلا أنه يصير مكملاً فيما لا يزال، فإن قيل: إذا كان التكميل من صفات الكمال فحيث لم يكن مكملاً في الأزل فقد كان عارياً عن صفات الكمال فيكون ناقصاً وهو محال، قلنا: النقصان إنما يلزم لو كان ذلك ممكناً في الأزل لكنا بينا أن الفعل الأزلي محال فالتكميل الأزلي محال فعدمه لا يكون نقصاناً، كما أن قولنا: إنه لا يقدر على تكوين مثل نفسه لا يكون نقصاناً لأنه غير ممكن الوجود في نفسه، وكقولنا: إنه لا يعلم عدداً مفصلاً كحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه، وحركات أهل الجنة غير متناهية فلا يكون له عدد مفصل، فامتنع ذلك لا لقصور في العلم، بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول.