الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ }

اعلم أن أصعب الأشياء على الإنسان بذل النفس في القتال، وبذل المال في الإنفاق فلما قدم الأمر بالقتال أعقبه بالأمر بالإنفاق، وأيضاً فيه وجه آخر، وهو أنه تعالى أمر بالقتال فيما سبق بقوله:وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [البقرة: 244] ثم أعقبه بقوله:مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } [البقرة: 245] والمقصود منه إنفاق المال في الجهاد، ثم إنه مرة ثانية أكد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت، ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد، وهو قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ }. إذا عرفت وجه النظم فنقول في الآية مسائل: المسألة الأولى: المعتزلة احتجوا على أن الرزق لا يكون إلا حلالاً بقوله: { أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـٰكُم } فنقول: الله تعالى أمر بالإنفاق من كل ما كان رزقاً بالإجماع أما ما كان حراماً فإنه لا يجوز إنفاقه، وهذا يفيد القطع بأن الرزق لا يكون حراماً، والأصحاب قالوا: ظاهر الآية وإن كان يدل على الأمر بإنفاق كل ما كان رزقاً إلا أنا نخصص هذا الأمر بإنفاق كل ما كان رزقاً حلالاً. المسألة الثانية: اختلفوا في أن قوله: { أَنفَقُواْ } مختص بالإنفاق الواجب كالزكاة أم هو عام في كل الإنفاقات سواء كانت واجبة أو مندوبة، فقال الحسن: هذا الأمر مختص بالزكاة، قال لأن قوله: { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ } كالوعد والوعيد لا يتوجه إلا على الواجب وقال الأكثرون: هذا الأمر يتناول الواجب والمندوب، وليس في الآية وعيد، فكأنه قيل: حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدنيا، فإنكم إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة والقول الثالث: أن المراد منه الإنفاق في الجهاد: والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد، فكان المراد منه الإنفاق في الجهاد، وهذا قول الأصم. المسألة الثالثة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو { لاَّ بَيْعٌ، وَلاَ خُلَّةٌ، وَلاَ شَفَـٰعَةٌ } بالنصب، وفي سورة إبراهيم عليه السلاملاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَـٰلٌ } [إبراهيم: 31] وفي الطورلاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } [الطور: 23] والباقون جميعاً بالرفع، والفرق بين النصب والرفع قد ذكرناه في قوله:فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ } [البقرة: 197]. المسألة الرابعة: المقصود من الآية أن الإنسان يجىء وحده، ولا يكون معه شيء مما حصله في الدنيا، قال تعالى:وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } [الأنعام: 94] وقال:وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً } [مريم: 80]. أما قوله: { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } ففيه وجهان الأول: أن البيع ههنا بمعنى الفدية، كما قال:فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } [الحديد: 15] وقال:وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ } [البقرة: 123] وقال:وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا } [الأنعام: 7] فكأنه قال: من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فتكتسب ما تفتدي به من العذاب والثاني: أن يكون المعنى: قدموا لأنفسكم من المال الذي هو في ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة حتى يكتسب شيء من المال.

السابقالتالي
2 3