الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }

وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجوه. أحدها: أن الله تعالى بين أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة ليتم إنعامه على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته بإحياء شرائع إبراهيم ودينه على ما قال:وَلأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ } [البقرة:150] وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم على ما ذكر في قصة بناء الكعبة وسعى هاجر بين الجبلين فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية. وثانيها: أنه تعالى لما قال:وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مّنَ ٱلْخَوفْ وَٱلْجُوعِ } [البقرة: 155] إلى قوله: { وَبَشّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ } قال: { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ ٱللَّهِ } وإنما جعلهما كذلك لأنهما من آثار هاجر وإسماعيل مما جرى عليهما من البلوى واستدلوا بذلك على أن من صبر على البلوى لا بد وأن يصل إلى أعظم الدرجات وأعلى المقامات. وثالثها: أن أقسام تكليف الله تعالى ثلاثة. أحدها: ما يحكم العقل بحسنه في أول الأمر فذكر هذا القسم أولاً وهو قوله:اذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [البقرة: 152] فإن كان عاقل يعلم أن ذكر المنعم بالمدح والثناء والمواظبة على شكره أمر مستحسن في العقول. وثانيها: ما يحكم العقل بقبحه في أول الأمر إلا أنه بسبب ورود الشرع به يسلم حسنه، وذلك مثل إنزال الآلام والفقر والمحن فإن ذلك كالمستقبح في العقول لأن الله تعالى لا ينتفع به ويتألم العبد منه فكان ذلك كالمستقبح إلا أن الشرع لما ورد به وبين الحكمة فيه، وهي الإبتلاء والامتحان على ما قال:وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ٱلْخَوفْ وَٱلْجُوعِ } [البقرة: 155] فحينئذ يعتقد المسلم حسنه وكونه حكمة وصواباً. وثالثها: الأمر الذي لا يهتدي لا إلى حسنه ولا إلى قبحه، بل يراه كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرة وهو مثل أفعال الحج من السعي بين الصفا والمروة، فذكر الله تعالى هذا القسم عقيب القسمين الأولين ليكون قد نبه على جميع أقسام تكاليفه وذاكراً لكلها على سبيل الاستيفاء والاستقصاء والله أعلم. المسألة الثانية: اعلم أن الصفا والمروة علمان للجبلين المخصوصين إلا أن الناس تكلموا في أصل اشتقاقهما قال القفال رحمه الله: قيل إن الصفا واحد ويجمع على صفي وأصفاء كما يقال عصا وعصي، ورحا وأرحاء قال الراجز:
كأن متنيه من النفي   مواقع الطير من الصفي
وقد يكون بمعنى جمع واحدته صفاة قال جرير:
إنا إذا قرع العدو صفاتنا   لاقوا لنا حجراً أصم صلودا
وفي كتاب الخليل: الصفا الحجر الضخم الصلب الأملس، وإذا نعتوا الصخرة قالوا: صفاة صفواء، وإذا ذكروا قالوا: صفا صفوان. فجعل الصفا والصفاة كأنهما في معنى واحد وقال المبرد الصفا كل حجر لا يخالطه غيره من طين أو تراب متصل به، واشتقاقه من صفا يصفوا إذا خلص وأما المروة فقال الخليل: من الحجارة ما كان أبيض أملس صلباً شديد الصلابة، وقاله غير: هو الحجارة الصغيرة يجمع في القليل مروات وفي الكثير مرو قال أبو ذؤيب:

السابقالتالي
2 3 4 5 6