الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } * { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } * { تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً }

اعلم أنه تعالى لما ذكر في التائب أنه يدخل الجنة وصف الجنة بأمور: أحدها: قوله { جَنَّـٰتِ عَدْنٍ ٱلَّتِى وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِٱلْغَيْبِ } والعدن الإقامة وصفها بالدوام على خلاف حال الجنان في الدنيا التي لا تدوم ولذلك فإن حالها لا يتغير في مناظرها فليست كجنان الدنيا التي حالها يختلف في خضرة الورق وظهور النور والثمر وبين تعالى أنها: وعد الرحمن لعباده وأما قوله: { بِٱلْغَيْبِ } ففيه وجهان: أحدهما: أنه تعالى وعدهم إياها وهي غائبة عنهم غير حاضرة أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها. والثاني: أن المراد وعد الرحمن للذين يكونون عباداً بالغيب أي الذين يعبدونه في السر بخلاف المنافقين فإنهم يعبدونه في الظاهر ولا يعبدونه في السر وهو قول أبي مسلم. والوجه الأول: أقوى لأنه تعالى بين أن الوعد منه تعالى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه مشاهد حاصل، لذلك قال بعده: { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } أما قوله: { مَأْتِيّاً } فقيل إنه مفعول بمعنى فاعل والوجه أن الوعد هو الجنة وهم يأتونها، قال الزجاج: كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه وما أتاك فقد أتيته والمقصود من قوله: { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } بيان أن الوعد منه تعالى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه مشاهد وحاصل والمراد تقرير ذلك في القلوب. وثانيها: قوله:لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَـٰماً } [مريم: 62] واللغو من الكلام ما سبيله أن يلغي ويطرح وهو المنكر من القول ونظيره قوله:لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَـٰغِيَةً } [الغاشية: 11] وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو حيث نزه الله تعالى عنه الدار التي لا تكليف فيها وما أحسن قوله:وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً } [الفرقان: 72]،وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَـٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـٰلُكُمْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى ٱلْجَـٰهِلِينَ } [القصص: 55] أما قوله: { إِلاَّ سَلَـٰماً } ففيه بحثان: البحث الأول: أن فيه إشكالاً وهو أن السلام ليس من جنس اللغو فكيف استثنى السلام من اللغو والجواب عنه من وجوه: أحدها: أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة وأهل الجنة لا حاجة بهم إلى هذا الدعاء فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام. وثانيها: أن يحمل ذلك على الاستثناء المنقطع. وثالثها: أن يكون هذا من جنس قول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم   بهن فلول من قراع الكتائب
البحث الثاني: أن ذلك السلام يحتمل أن يكون من سلام بعضهم على بعض أو من تسليم الملائكة أو من تسليم الله تعالى على ما قال تعالى:وَالمَلَـٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ * سَلَـٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ }

السابقالتالي
2