الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } * { وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً }

اعلم أنه ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم عليه السلام لما اعتزلهم في دينهم وفي بلدهم واختار الهجرة إلى ربه إلى حيث أمره لم يضره ذلك ديناً ودنيا، بل نفعه فعوضه أولاداً أنبياء ولا حالة في الدين والدنيا للبشر أرفع من أن يجعل الله له رسولاً إلى خلقه ويلزم الخلق طاعته والانقياد له مع ما يحصل فيه من عظيم المنزلة في الآخرة فصار جعله تعالى إياهم أنبياء من أعظم النعم في الدنيا والآخرة، ثم بين تعالى أنه مع ذلك وهب لهم من رحمته أي وهب لهم من النبوة ما وهب ويدخل فيه المال والجاه والأتباع والنسل الطاهر والذرية الطيبة ثم قال: { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } ولسان الصدق الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان، كما عبر باليد عما يعطي باليد وهو العطية، واستجاب الله دعوته في قوله:وَٱجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى ٱلأَخِرِينَ } [الشعراء: 84] فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم وقال عز وجل:مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰهِيمَ } [الحج: 78]ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ حَنِيفًا } [النحل: 123] قال بعضهم: إن الخليل اعتزل عن الخلق على ما قال:وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [مريم: 48] فلا جرم بارك الله في أولاده فقال: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً }. وثانيها: أنه تبرأ من أبيه في الله تعالى على ما قال:فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرٰهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة: 114] لا جرم أن الله سماه أباً للمسلمين فقال:مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰهِيمَ } [الحج:78]. وثالثها: تل ولده للجبين ليذبحه على ما قال:فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [الصافات: 103] لا جرم فداه الله تعالى على ما قال:وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [الصافات: 107]. ورابعها: أسلم نفسه فقال:أَسْلَمْتُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [البقرة: 131] فجعل الله تعالى النار عليه برداً وسلاماً فقال:قُلْنَا يا نَّارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ } [الأنبياء: 69]. وخامسها: أشفق على هذه الأمة فقال:رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ } [البقرة: 129] لا جرم أشركه الله تعالى في الصلوات الخمس، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. وسادسها: في حق سارة في قوله:وَإِبْرٰهِيمَ ٱلَّذِى وَفَّىٰ } [النجم: 37] لا جرم جعل موطىء قدميه مباركاً:وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرٰهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة: 125]. وسابعها: عادى كل الخلق في الله فقال:فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [الشعراء: 77] لا جرم اتخذه الله خليلاً على ما قال:وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرٰهِيمَ خَلِيلاً } [النساء: 125] ليعلم صحة قولنا أنه ما خسر على الله أحد.