الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } * { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ٱلأَرَآئِكِ نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً }

اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد المبطلين أردفه بوعد المحقين وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان لأن العطف يوجب المغايرة. المسألة الثانية: قوله: { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } ظاهره يقتضي أنه يستوجب المؤمن بحسن عمله على الله أجراً، وعند أصحابنا ذلك الاستيجاب حصل بحكم الوعد وعند المعتزلة لذات الفعل وهو باطل لأن نعم الله كثيرة وهي موجبة للشكر والعبودية فلا يصير الشكر والعبودية موجبين لثواب آخر لأن أداء الواجب لا يوجب شيئاً آخر. المسألة الثالثة: نظير قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } الخ قول الشاعر:
إن الخليفة إن الله سربله   سربال ملك به ترجى الخواتيم
كرر أن تأكيداً للأعمال والجزاء عليها. المسألة الرابعة: أولئك خبر إن وإنا لا نضيع اعتراض ولك أن تجعل إنا لا نضيع وأولئك خبرين معاً ولك أن تجعل أولئك كلاماً مستأنفاً بياناً للأجر المبهم واعلم أنه تعالى لما أثبت الأجر المبهم أردفه بالتفصيل من وجوه: أولها: صفة مكانهم وهو قوله: { أُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَـٰرُ } والعدن في اللغة عبارة عن الإقامة فيجوز أن يكون المعنى أولئك لهم جنات إقامة كما يقال هذه دار إقامة، ويجوز أن يكون العدن إسماً لموضع معين من الجنة وهو وسطها وأشرف أماكنها وقد استقصينا فيه فيما تقدم وقوله: { جَنَّـٰتُ } لفظ جمع فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى:وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن: 46] ويمكن أن يكون المراد أن نصيب كل واحد من المكلفين جنة على حدة وذكر أن من صفات تلك الجنات أن الأنهار تجري من تحتها وذلك لأن أفضل المساكن في الدنيا البساتين التي يجري فيها الأنهار. وثانيها: إن لباس أهل الدنيا إما لباس التحلي، وإما لباس التستر، أما لباس التحلي فقال تعالى في صفته: { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } والمعنى أنه يحليهم الله تعالى ذلك أو تحليهم الملائكة وقال بعضهم على كل واحد منهم ثلاثة أسورة سوار من ذهب لأجل هذه الآية وسوار من فضة لقوله تعالى:وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } [الإنسان: 21] وسوار من لؤلؤ لقوله تعالى:وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج: 23]، وأما لباس التستر فقوله: { وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَاسْتَبْرَقٍ } والمراد من سندس الآخرة واستبرق الآخرة والأول هو الديباج الرقيق وهو الخز والثاني هو الديباج الصفيق وقيل أصله فارسي معرب وهو استبره، أي غليظ، فإن قيل: ما السبب في أنه تعالى قال في الحلي: { يُحَلَّوْنَ } على فعل ما لم يسم فاعله وقال في السندس والاستبرق ويلبسون فأضاف اللبس إليهم، قلنا: يحتمل أن يكون اللبس إشارة إلى ما استوجبوه بعملهم وأن يكون الحلي إشارة إلى ما تفضل الله عليهم ابتداء من زوائد الكرم. وثالثها: كيفية جلوسهم فقال في صفتها متكئين فيها على الأرائك. قالوا: الأرائك جمع أريكة وهي سرير في حجلة، أما للسرير وحده فلا يسمى أريكة. ولما وصف الله تعالى هذه الأقسام قال: { نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } والمراد أن يكون هذا في مقابلة ما تقدم ذكره من قوله: { وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا }.