الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }

في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما شرح الأوامر الثلاثة، عاد بعده إلى ذكر النواهي فنهى عن ثلاثة أشياء: أولها: قوله: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وقوله: { تَقْفُ } مأخوذ من قولهم: قفوت أثر فلان أقفو قفواً وقفواً إذا اتبعت أثره، وسميت قافية الشعر قافية لأنها تقفو البيت، وسميت القبيلة المشهورة بالقافة، لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوال الإنسان، وقال تعالى:ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم بِرُسُلِنَا } [الحديد: 27] وسمي القفا قفا لأنه مؤخر بدن الإنسان كأنه شيء يتبعه ويقفوه فقوله: { وَلاَ تَقْفُ } أي ولا تتبع ولا تقتف ما لا علم لك به من قول أو فعل، وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوماً، وهذه قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة، وكل واحد من المفسرين حمله على واحد من تلك الأنواع وفيه وجوه: الوجه الأول: المراد نهي المشركين عن المذاهب التي كانوا يعتقدونها في الإلهيات والنبوات بسبب تقليد أسلافهم، لأنه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتباع الهوى فقال:إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـٰنٍ إِن يَتَّبِعُونَ إلا الظن وما تهوى الأنفس } [النجم: 23] وقال في إنكارهم البعث:بَلِ ادارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الأَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ } [النمل: 66] وحكي عنهم أنهم قالوا:إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [الجاثية: 32] وقال:وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ٱللَّهِ } [القصص: 50] وقال:وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ } [النحل: 116] الآية وقال:هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ } [الأنعام: 148]. والقول الثاني: نقل عن محمد بن الحنفية أن المراد منه شهادة الزور، وقال ابن عباس: لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك. والقول الثالث: المراد منه: النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب، وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ويبالغون فيه. القول الرابع: المراد منه النهي عن الكذب. قال قتادة: لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر وعلمت ولم تعلم. والقول الخامس: أن القفو هو البهت وأصله من القفا، كأنه قول يقال خلفه وهو في معنى الغيبة وهو ذكر الرجل في غيبته بما يسوءه. وفي بعض الأخبار من قفا مسلماً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال، واعلم أن اللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقليد، والله أعلم. المسألة الثانية: احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: القياس لا يفيد إلا الظن والظن مغاير للعلم، فالحكم في دين الله بالقياس حكم بغير المعلوم، فوجب أن لا يجوز لقوله تعالى: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }.

السابقالتالي
2 3 4