الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً }

هذا هو النوع الثاني مما نهى الله عنه في هذه الآية، وفيه مسائل: المسألة الأولى: لقائل أن يقول: إن أكبر الكبائر بعد الكفر بالله القتل، فما السبب في أن الله تعالى بدأ أولاً بذكر النهي عن الزنا وثانياً بذكر النهي عن القتل. وجوابه: أنا بينا أن فتح باب الزنا يمنع من دخول الإنسان في الوجود، والقتل عبارة عن إبطال الإنسان بعد دخوله في الوجود. ودخوله في الوجود مقدم على إبطاله وإعدامه بعد وجوده، فلهذا السبب ذكر الله تعالى الزنا أولاً ثم ذكر القتل ثانياً. المسألة الثانية: اعلم أن الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة، والحل إنما يثبت بسبب عارضي، فلما كان الأمر كذلك لا جرم نهى الله عن القتل مطلقاً بناء على حكم الأصل، ثم استثنى عنه الحالة التي يحصل فيها حل القتل وهو عند حصول الأسباب العرضية فقال: { إِلاَّ بِٱلْحَقّ } / فنفتقر ههنا إلى بيان أن الأصل في القتل التحريم، والذي يدل عليه وجوه: الأول: أن القتل ضرر والأصل في المضار الحرمة لقوله:مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78]ولا يريد بكم العسر } [البقرة:185] " ولا ضرر ولا ضرار ". الثاني: قوله عليه السلام: " الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب " الثالث: أن الآدمي خلق للاشتغال بالعبادة لقوله:وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] ولقوله عليه السلام: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً " والاشتغال بالعبادة لا يتم إلا عند عدم القتل. الرابع: أن القتل إفساد فوجب أن يحرم لقوله تعالى:وَلاَ تُفْسِدُواْ } [الأعراف: 85]. الخامس: أنه إذا تعارض دليل تحريم القتل ودليل إباحته فقد أجمعوا على أن جانب الحرمة راجح، ولولا أن مقتضى الأصل هو التحريم وإلا لكان ذلك ترجيحاً لا لمرجح وهو محال. السادس: أنا إذا لم نعرف في الإنسان صفة من الصفات إلا مجرد كونه إنساناً عاقلاً حكمنا فيه بتحريم قتله، وما لم نعرف شيئاً زائداً على كونه إنساناً لم نحكم فيه بحل دمه، ولولا أن أصل الإنسانية يقتضي حرمة القتل، وإلا لما كان كذلك فثبت بهذه الوجوه أن الأصل في القتل هو التحريم. وأن حله لا يثبت إلا بأسباب عرضية. وإذا ثبت هذا فنقول: إنه تعالى حكم بأن الأصل في القتل هو التحريم فقال: { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ } فقوله: { وَلاَ تَقْتُلُواْ } نهي وتحريم، وقوله: { حَرَّمَ ٱللَّهُ } إعادة لذكر التحريم على سبيل التأكيد، ثم استثنى عنه الأسباب العرضية الاتفاقية فقال: { إِلاَّ بِٱلْحَقّ } ثم ههنا طريقان: الطريق الأول: أن مجرد قوله: { إِلاَّ بِٱلْحَقّ } مجمل لأنه ليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وكيف هو؟ ثم إنه تعالى قال: { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَـٰناً } أي في استيفاء القصاص من القاتل، وهذا الكلام يصلح جعله بياناً لذلك المجمل، وتقريره كأنه تعالى قال: { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ } وذلك الحق هو أن من قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً في استيفاء القصاص.

السابقالتالي
2 3 4 5