الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } * { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً }

اعلم أنه تعالى لما أمره بالإنفاق في الآية المتقدمة علمه في هذه الآية أدب الإنفاق، واعلم أنه تعالى شرح وصف عبادة المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان فقال:وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [الفرقان: 67] فههنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف فقال: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، والمعنى: لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط: { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيء. وحاصل الكلام: أن الحكماء ذكروا في كتب «الأخلاق» أن لكل خلق طرفي إفراط وتفريط وهما مذمومان، فالبخل إفراط في الإمساك، والتبذير إفراط في الإنفاق وهما مذمومان، والخلق الفاضل هو العدل والوسط كما قال تعالى:وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة:143]. ثم قال تعالى: { فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً } أما تفسير تقعد، فقد سبق في الآية المتقدمة. وأما كونه { ملوماً } فلأنه يلوم نفسه. وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة، وأما كونه { محسوراً } فقال الفراء: تقول العرب للبعير: هو محسور إذا انقطع سيره وحسرت الدابة إذا سيرها حتى ينقطع سيرها، ومنه قوله تعالى:يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } [الملك: 4] وجمع الحسير حسرى مثل قتلى وصرعى، وقال القفال: المقصود تشبيه حال من أنفق كل ماله ونفقاته بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته، لأن ذلك المقدار من المال كأنه مطية يحمل الإنسان ويبلغه إلى آخر الشهر أو السنة، كما أن ذلك البعير يحمله ويبلغه إلى آخر المنزل فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطريق عاجزاً متحيراً فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدة شهر بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً ومن فعل هذا لحقه اللوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره وترك الحزم في مهمات معاشه. ثم قال تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } والمقصود أنه عرف رسوله صلى الله عليه وسلم كونه رباً. والرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب فيوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض. والقدر في اللغة التضييق، ومنه قوله تعالى:وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [الطلاق: 7] وقوله تعالى:وَأَمَّا إِذَا مَا ٱبْتَلَـٰهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [الفجر: 16] أي ضيق وإنما وسع على البعض لأن ذلك هو الصلاح لهم قال تعالى:وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآء } [الشورى: 27]. ثم قال تعالى: { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } يعنى أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلا ذلك القدر، فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل، بل لأجل رعاية المصالح.