الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } * { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } * { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } * { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً }

في الآية مسائل: المسألة الأولى: قال القفال رحمه الله: هذه الآية داخلة في معنى قوله:وَكُلَّ إِنْسَـٰنٍ أَلْزَمْنَـٰهُ طَـٰئِرَهُ فِى عُنُقِهِ } [الإسراء: 13] ومعناه: أن الكمال في الدنيا قسمان، فمنهم من يريد بالذي يعمله الدنيا ومنافعها والرياسة فيها، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدخول في طاعتهم والإجابة لدعوتهم، إشفاقاً من زوال الرياسة عنه، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً لأنه في قبضة الله تعالى فيؤتيه الله في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان، بل كما يشاء الله إلا أن عاقبته جهنم يدخلها فيصلاها بحرها مذموماً ملوماً مدحوراً منفياً مطروداً من رحمة الله تعالى. وفي لفظ هذه الآية فوائد. الفائدة الأولى: أن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة، فقوله: { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَـٰهَا } إشارة إلى المضرة العظيمة، وقوله: { مَذْمُومًا } إشارة إلى الإهانة والذم، وقوله: { مَّدْحُورًا } إشارة إلى البعد والطرد عن رحمة الله، وهي تفيد كون تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص. الفائدة الثانية: أن من الجهال من إذا ساعدته الدنيا اغتر بها وظن أن ذلك لأجل كرامته على الله تعالى، وأنه تعالى بين أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا الله تعالى، لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها هي المصير إلى عذاب الله وإهانته، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السوء في لزومها له وكونها سائقة له إلى أشد العذاب. الفائدة الثالثة: قوله تعالى: { لِمَن نُّرِيدُ } يدل على أنه لا يحصل الفوز بالدنيا لكل أحد، بل كثير من الكفار والضلال يعرضون عن الدين في طلب الدنيا، ثم يبقون محرومين عن الدنيا وعن الدين، وهذا أيضاً فيه زجر عظيم لهؤلاء الكفار الضلال الذين يتركون الدين لطلب الدنيا، فإنه ربما فاتتهم الدنيا فهم الأخسرون أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. وأما القسم الثاني: وهو قوله تعالى: { وَمَنْ أَرَادَ ٱلأَخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فشرط تعالى فيه شروطاً ثلاثة: الشرط الأول: أن يريد بعمله الآخرة أي ثواب الآخرة، فإنه إن لم تحصل هذه الإرادة، وهذه النية لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى:وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [النجم: 39] ولقوله عليه الصلاة والسلام: " إنما الأعمال بالنيات " ولأن المقصود من الأعمال استنارة القلب بمعرفة الله تعالى ومحبته، وهذا لا يحصل إلا إن نوى بعمله عبودية الله تعالى وطلب طاعته. والشرط الثاني: قوله: { وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا } وذلك هو أن يكون العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة من الأعمال التي بها ينال ثواب الآخرة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان من باب القرب والطاعات، وكثير من الناس يتقربون إلى الله تعالى بأعمال باطلة، فإن الكفار يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأوثان، ولهم فيه تأويلان: التأويل الأول: يقولون: إله العالم أجل وأعظم من أن يقدر الواحد منا على إظهار عبوديته وخدمته فليس لنا هذا القدر والدرجة ولكن غاية قدرنا أن نشتغل بعبودية بعض المقربين من عباد الله تعالى، مثل أن نشتغل بعبادة كوكب أو عبادة ملك من الملائكة، ثم إن الملك والكوكب يشتغلون بعبادة الله تعالى، فهؤلاء يتقربون إلى الله تعالى بهذا الطريق، إلا أنه لما كان فاسداً في نفسه لا جرم لم يحصل الانتفاع به.

السابقالتالي
2 3 4