الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } * { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }

اعلم أن في الآية مسائل: المسألة الأولى: في كيفية النظم وجوه: الوجه الأول: أنه تعالى لما قال: { وَكُلَّ شَيْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } كان معناه أن كل ما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد فقد صار مذكوراً. وكل ما يحتاج إليه من شرح أحوال الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، فقد صار مذكوراً. وإذا كان الأمر كذلك فقد أزيحت الأعذار، وأزيلت العلل فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه ونقول له: { ٱقْرَأْ كَتَـٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }. الوجه الثاني: أنه تعالى لما بين أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا، مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما كان منعماً عليهم بأعظم وجوه النعم. وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فإنه يكون مسؤولاً عن أعماله وأقواله. الوجه الثالث: في تقرير النظم أنه تعالى لما بين أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته كما قال:وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] فلما شرح أحوال الشمس والقمر والليل والنهار، كان المعنى: إني إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي، وإذا كان كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سألته أنه هل أتى بتلك الخدمة والطاعة، أو تمرد وعصى وبغى، فهذا هو الوجه في تقرير النظم. المسألة الثانية: في تفسير لفظ، الطائر، قولان: القول الأول: أن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه، أو يحتاج إلى ازعاجه، وإذا طار فهل يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة، فلما كثر ذلك منهم سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ونظيره قوله تعالى في سورة يس:قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } [يس: 18] إلى قوله:قَالُواْ طَـٰئِرُكُم مَّعَكُمْ } [يس: 19] فقوله: { وَكُلَّ إِنْسَـٰنٍ أَلْزَمْنَـٰهُ طَـٰئِرَهُ فِى عُنُقِهِ } أي كل إنسان ألزمناه عمله في عنقه. وتدل على صحة هذا الوجه قراءة الحسن ومجاهد: { أَلْزَمْنَـٰهُ طَـٰئِرَهُ فِى عُنُقِهِ }. القول الثاني: قال أبو عبيدة: الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه الفرس البخت، وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر ما طار له من خير وشر، والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والعلم، والعمر والرزق، والسعادة والشقاوة. والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك القدر وأن ينحرف عنه، بل لا بد وأن يصل إلى ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية، فتلك الأشياء المقدورة كأنها تطير إليه وتصير إليه، فبهذا المعنى لا يبعد أن يعبر عن تلك الأحوال المقدرة بلفظ الطائر، فقوله: { وَكُلَّ إِنْسَـٰنٍ أَلْزَمْنَـٰهُ طَـٰئِرَهُ فِى عُنُقِهِ } كناية عن أن كل ما قدره الله تعالى ومضى في علمه حصوله، فهو لازم له واصل إليه غير منحرف عنه.

السابقالتالي
2 3 4