الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } * { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } * { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }

وفيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي بعد الإنسان سائر الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة. وهي الحواس الظاهرة والباطنة، والشهوة والغضب، ثم هذه الحيوانات قسمان: منها ما ينتفع الإنسان بها، ومنها ما لا يكون كذلك، والقسم الأول: أشرف من الثاني، لأنه لما كان الإنسان أشرف الحيوانات وجب في كل حيوان يكون انتفاع الإنسان به أكمل. وأكثر أن يكون أكمل وأشرف من غيره، ثم نقول: والحيوان الذي ينتفع الإنسان به إما أن ينتفع به في ضروريات معيشته مثل الأكل واللبس أو لا يكون كذلك، وإنما ينتفع به في أمور غير ضرورية مثل الزينة وغيرها، والقسم الأول أشرف من الثاني، وهذا القسم هو الأنعام، فلهذا السبب بدأ الله بذكره في هذه الآية، فقال: { وَٱلأَنْعَـٰمَ خَلَقَهَا لَكُمْ }. واعلم أن الأنعام عبارة عن الأزواج الثمانية وهي: الضأن، والمعز. والإبل. والبقر، وقد يقال أيضاً: الأنعام ثلاثة: الإبل. والبقر. والغنم. قال صاحب «الكشاف»: وأكثر ما يقع هذا اللفظ على الإبل. وقوله: { وَٱلأَنْعَـٰمُ } منصوبة وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر كقوله تعالى:وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَـٰهُ مَنَازِلَ } [يس: 39] ويجوز أن يعطف على الإنسان. أي خلق الإنسان والأنعام، قال الواحدي: تم الكلام عند قوله: { وَٱلأَنْعَـٰمَ خَلَقَهَا } ثم ابتدأ وقال: { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } ويجوز أيضاً أن يكون تمام الكلام عند قوله: { لَكُمْ } ثم ابتدأ وقال: { فِيهَا دِفْء } قال صاحب «النظم»: أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله: { خَلَقَهَا } والدليل عليه أنه عطف عليه قوله: { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال. المسألة الثانية: أنه تعالى لما ذكر أنه خلق الأنعام للمكلفين أتبعه بتعديد تلك المنافع، واعلم أن منافع النعم منها ضرورية، ومنها غير ضرورية، والله تعالى بدأ بذكر المنافع الضرورية. فالمنفعة الأولى: قوله: { لَكُمْ فِيهَا دِفْء } وقد ذكر هذه المعنى في آية أخرى فقال:وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا } [النحل: 80] والدفء عند أهل اللغة ما يستدفأ به من الأكسية، قال الأصمعي: ويكون الدفء السخونة. يقال: أقعد في دفء هذا الحائط، أي في كنه. وقرىء: { دف } بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء. والمنفعة الثانية: قوله: { وَمَنَـٰفِعُ } قالوا: المراد نسلها ودرها، وإنما عبر الله تعالى عن نسلها ودرها بلفظ المنفعة وهو اللفظ الدال على الوصف الأعم، لأن النسل والدر قد ينتفع به في الأكل وقد ينتفع به في البيع بالنقود، وقد ينتفع به بأن يبدل بالثياب وسائر الضروريات فعبر عن جملة هذه الأقسام بلفظ المنافع ليتناول الكل. والمنفعة الثالثة: قوله: { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }. فإن قيل: قوله: { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } يفيد الحصر وليس الأمر كذلك، فإنه قد يؤكل من غيرها، وأيضاً منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللبس، فلم أخر منفعته في الذكر؟ قلنا: الجواب عن الأول: إن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم، وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط وصيد البر والبحر، فيشبه غير المعتاد.

السابقالتالي
2 3