الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } * { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } * { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

اعلم أنا قد ذكرنا أن المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول أربعة: الإلهيات والنبوات والمعاد، وإثبات القضاء والقدر، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة تقرير الآلهيات، فلهذا السبب كلما امتد الكلام في فصل من الفصول في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الآلهيات، وقد ذكرنا في أول هذه السورة أنه تعالى لما أراد ذكر دلائل الآلهيات ابتدأ بالأجرام الفلكية، وثنى بالإنسان، وثلث بالحيوان، وربع بالنبات، وخمس بذكر أحوال البحر والأرض، فههنا في هذه الآية لما عاد إلى تقرير دلائل الإلهيات بدأ أولاً بذكر الفلكيات فقال: { وَٱللَّهُ أَنزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَاءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } والمعنى: أنه تعالى خلق السماء على وجه ينزل منه الماء ويصير ذلك الماء سبباً لحياة الأرض، والمراد بحياة الأرض نبات الزرع والشجر والنور والثمر بعد أن كان لا يثمر، وينفع بعد أن كان لا ينفع، وتقرير هذه الدلائل قد ذكرناه مراراً كثيرة. ثم قال تعالى: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سماع إنصاف وتدبر لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لم يسمع. والنوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الآيات الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات وهو قوله: { وَإِنَّ لَكُمْ فِى ٱلأَنْعَـٰمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِي بُطُونِهِ } قد ذكرنا معنى العبرة في قوله:لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَـٰرِ } [آل عمران: 13] وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم، وحمزة والكسائي: { نُّسْقِيكُمْ } بضم النون، والباقون بالفتح، أما من فتح النون فحجته ظاهرة تقول سقيته حتى روى أسقيه قال تعالى:وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [الإنسان: 21] وقال:وَٱلَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ } [الشعراء: 79] وقال:وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً } [محمد: 15] ومن ضم النون فهو من قولك أسقاه إذا جعل له شراباً كقوله:وَأَسْقَيْنَـٰكُم مَّاء فُرَاتاً } [المرسلات: 27] وقوله:فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } [الحجر: 22] والمعنى ههنا أنا جعلناه في كثرته وإدامته كالسقيا، واختار أبو عبيد الضم قال لأنه شرب دائم، وأكثر ما يقال في هذا المقام أسقيت. المسألة الثانية: قوله: { مما في بطونه } الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال مما في بطونها، وذكر النحويون فيه وجوهاً: الأول: أن لفظ الأنعام لفظ مفرد وضع لإفادة جمع، كالرهط والقوم والبقر والنعم، فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد، وهو التذكير، وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع، وهو التأنيث، فلهذا السبب قال ههنا { فِي بُطُونِهِ } ، وقال في سورة المؤمنين:فِى بُطُونِهَا } [المؤمنون: 21]. الثاني: قوله: { فِي بُطُونِهِ } أي في بطون ما ذكرنا، وهذا جواب الكسائي. قال المبرد: هذا شائع في القرآن. قال تعالى:فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بازغةً قَالَ هَـٰذَا رَبّى } [الأنعام: 78] يعني هذا الشيء الطالع ربي.

السابقالتالي
2 3 4 5 6