الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ }

اعلم أن أشرف الأجسام بعد الأفلاك والكواكب هو الإنسان، فلما ذكر الله تعالى الاستدلال على وجود الإله الحكيم بأجرام الأفلاك، أتبعه بذكر الاستدلال على هذا المطلوب بالإنسان. واعلم أن الإنسان مركب من بدن ونفس، فقوله تعالى: { خَلَقَ ٱلإِنْسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ } اشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم، وقوله: { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على وجود الصانع الحكيم. أما الطريق الأول: فتقريره أن نقول: لا شك أن النطفة جسم متشابه الأجزاء بحسب الحس والمشاهدة، إلا أن من الأطباء من يقول إنه مختلف الأجزاء في الحقيقة، وذلك لأنه إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع، فإن الغذاء يحصل له في المعدة هضم أول وفي الكبد هضم ثان. وفي العروق هضم ثالث. وعند وصوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابع. ففي هذا الوقت وصل بعض أجزاء الغذاء إلى العظم وظهر فيه أثر من الطبيعة العظيمة، وكذا القول في اللحم والعصب والعروق وغيرها ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشهوة يحصل ذوبان من جملة الأعضاء، وذلك هو النطفة، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع. إذا عرفت هذا فنقول: النطفة في نفسها إما أن تكون جسماً متشابه الأجزاء في الطبيعة والماهية، أو مختلف الأجزاء فيها، فإن كان الحق هو الأول لم يجز أن يكون المقتضى لتولد البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودم الطمث، لأن الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار. والقوة الطبيعية إذا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكرة، وعلى هذا الحرف عولوا في قولهم البسائط يجب أن تكون أشكالها الطبيعية في الكرة فلو كان المقتضى لتولد الحيوان من النطفة هو الطبيعة، لوجب أن يكون شكلها الكرة. وحيث لم يكن الأمر كذلك، علمنا أن المقتضى لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة، بل فاعل مختار، وهو يخلق بالحكمة والتدبير والاختيار. وأما القسم الثاني: وهو أن يقال: النطفة جسم مركب من أجزاء مختلفة في الطبيعة والماهية فنقول: بتقدير أن يكون الأمر كذلك، فإنه يجب أن يكون تولد البدن منها بتدبير فاعل مختار حكيم وبيانه من وجوه: الوجه الأول: أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة، وإذا كان كذلك كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة، فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في الأسفل، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل في الفوق، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوان على هذا الترتيب المعين أمراً دائماً ولا أكثرياً، وحيث كان الأمر كذلك، علمنا أن حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاص ليس إلا بتدبيرالفاعل المختار الحكيم.

السابقالتالي
2 3