الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاۤ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلاَّ ٱلْبَلاغُ ٱلْمُبِينُ } * { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } * { إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }

اعلم أن هذا هو الشبهة الثالثة لمنكري النبوة، وتقريرها: أنهم تمسكوا بصحة القول بالجبر على الطعن في النبوة فقالوا: لو شاء الله الإيمان لحصل الإيمان، سواء جئت أو لم تجىء، ولو شاء الله الكفر فإنه يحصل الكفر سواء جئت أو لم تجىء، وإذا كان الأمر كذلك فالكل من الله تعالى، ولا فائدة في مجيئك وإرسالك، فكان القول بالنبوة باطلاً، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن هذه الشبهة هي عين ما حكى الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله:سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء ٱللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْء كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [الأنعام: 148] واستدلال المعتزلة به مثل استدلالهم بتلك الآية. والكلام فيه استدلالاً واعتراضاً عين ما تقدم هناك فلا فائدة في الإعادة، ولا بأس بأن نذكر منه القليل فنقول: الجواب عن هذه الشبهة هي أنهم قالوا: لما كان الكل من الله تعالى كان بعثة الأنبياء عبثاً. فنقول: هذا اعتراض على الله تعالى، فإن قولهم: إذا لم يكن في بعثة الرسول مزيد فائدة في حصول الإيمان ودفع الكفر كانت بعثة الأنبياء غير جائزة من الله تعالى، فهذا القول جار مجرى طلب العلة في أحكام الله تعالى وفي أفعاله، وذلك باطل، بل الله تعالى أن يحكم في ملكه وملكوته ما يشاء ويفعل ما يريد، ولا يجوز أن يقال له: لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذلك؟ والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى أنه تعالى صرح في آخر هذه الآية بهذا المعنى فقال: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوت } فبين تعالى أن سنته في عبيده إرسال الرسل إليهم، وأمرهم بعبادة الله ونهيهم عن عبادة الطاغوت. ثم قال: { َ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلَـٰلَةُ } والمعنى: أنه تعالى وإن أمر الكل بالإيمان، ونهى الكل عن الكفر، إلا أنه تعالى هدى البعض وأضل البعض، فهذه سنة قديمة لله تعالى مع العباد، وهي أنه يأمر الكل بالإيمان وينهاهم عن الكفر، ثم يخلق الإيمان في البعض والكفر في البعض. ولما كانت سنة الله تعالى في هذا المعنى سنة قديمة في حق كل الأنبياء وكل الأمم والملل وإنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلهاً منزهاً عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين، كان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجباً للجهل والضلال والبعد عن الله فثبت أن الله تعالى إنما حكم على هؤلاء باستحقاق الخزي واللعن، لا لأنهم كذبوا في قولهم: { لَوْ شَآء ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ } بل لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الأنبياء والرسل وهذا باطل، فلا جرم استحقوا على هذا الاعتقاد مزيد الذم واللعن.

السابقالتالي
2 3