الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } * { وَعَلامَاتٍ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }

اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر بعض النعم التي خلقها الله تعالى في الأرض. فالنعمة الأولى: قوله: { وَأَلْقَىٰ فِى ٱلأَرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قوله: { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } يعني لئلا تميد بكم على قول الكوفيين وكراهة أن تميد بكم على قول البصريين، وذكرنا هذا عند قوله تعالى:يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [النساء: 176] والميد الحركة والاضطراب يميناً وشمالاً يقال: ماد يميد ميداً. المسألة الثانية: المشهور عن الجمهور في تفسير هذه الآية أن قالوا: إن السفينة إذا ألقيت على وجه الماء، فإنها تميد من جانب إلى جانب، وتضطرب، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة في تلك السفينة استقرت على وجه الماء فاستوت. قالوا فكذلك لما خلق الله تعالى الأرض على وجه الماء اضطربت ومادت، فخلق الله تعالى عليها هذه الجبال الثقال فاستقرت على وجه الماء بسبب ثقل هذه الجبال. ولقائل أن يقول: هذا يشكل من وجوه: الأول: أن هذا التعليل إما أن يذكر مع تسليم كون الأرض والماء ثقيلة بالطبع أو مع المنع من هذا الأصل ومع القول بأن حركات هذه الأجسام بطباعها أو ليست بطباعها بل هي واقعة بتخليق الفاعل المختار، أما على التقدير الأول فهذا التعليل مشكل، لأن على هذا الأصل لا شك أن الأرض أثقل من الماء، والأثقل من الماء يغوص في الماء ولا يبقى طافياً عليه وإذا لم يبق طافياً عليه امتنع أن يقال: إنها تميد وتميل وتضطرب، وهذا بخلاف السفينة لأنها متخذة من الخشب وفي داخل الخشب تجويفات مملوءة من الهواء، فلهذا السبب تبقى الخشبة طافية على الماء فحينئذ تضطرب وتميد وتميل على وجه الماء فإذا أرسيت بالأجسام الثقيلة استقرت وسكنت فظهر الفرق، وأما على التقدير الثاني وهو أن يقال: ليس للأرض ولا للماء طبائع توجب الثقل والرسوب والأرض إنما تنزل، لأن الله تعالى أجرى عادته بجعلها كذلك وإنما صار الماء محيطاً بالأرض لمجرد إجراء العادة، وليس ههنا طبيعة للأرض ولا للماء توجب حالة مخصوصة فنقول: فعلى هذا التقدير علة سكون الأرض هي أن الله تعالى يخلق فيها السكون وعلة كونها مائدة مضطربة هي أن الله تعالى يخلق فيها الحركة وعلى هذا التقدير فإنه يفسد القول بأن الأرض كانت مائلة فخلق الله الجبال وأرساها عليها لتبقى ساكنة، لأن هذا إنما يصح إذا كان طبيعة الأرض توجب الميدان وطبيعة الجبال توجب الإرساء والثبات، ونحن إنما نتكلم الآن على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال، فثبت أن هذا التعليل مشكل على كل التقديرات. السؤال الثاني: هو أن إرساء الأرض بالجبال إنما يعقل لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء من غير أن تميد وتميل من جانب إلى جانب، وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفاً فنقول: فما المقتضى لسكون ذلك الماء ووقوفه في حيزه المخصوص، فإن قلت: المقتضي لسكونه في ذلك الحيز المخصوص هو أن طبيعته المخصوصة توجب وقوفه في ذلك المعين، فلم لا تقول: مثله في الأرض وهو أن الطبيعة المخصوصة التي للأرض توجب وقوفها في ذلك الحيز المعين وذلك يفيد القول بأن الأرض إنما وقفت بسبب أن الله تعالى أرساها بالجبال.

السابقالتالي
2 3 4